التدهور الأمني والفساد، بقعتان سوداوتان في الجو السياسي الأفغاني

نشر مؤخرا المعهد العالمي للاقتصاد والسلام بمدينة سيدني الأسترالية تقريرا عن استقرار السلام في دول العالم، وقد احتلت فيه أفغانستان الترتيب رقم 163 بعد دول سوريا والعراق واليمن والسودان الجنوبية والصومال مما يجعل أفغانستان الدولة الأسوأ أمنا في العالم. يأتي ذلك في وقتٍ تستمر فيه مفاوضات السلام بقطر والتي بدأت منذ عدة أشهر بين تنظيم طالبان والمندوب الأمريكي الخاص لشؤون السلام زلمي خليلزاد، وقد تخلل هذه المفاوضات فتح الضوء الأخضر من الطرفين كمؤشرٍ دالٍ على تقدم المحادثات.

المعهد المذكور ينشر في كل عام فهرسا يُرتب دول العالم على أساس حالة السلام وتطوراته والميزانية الاقتصادية في تلك الدول.

معايير الترتيب المُعتد بها من قِبل معهد الاقتصاد والسلام

احتلت سوريا المركز الأخير في تقرير العام الماضي المنشور من قِبل معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي، إلا أن اشتداد حدة الحرب بين الحكومة الأفغانية وطالبان خلال العام الماضي وارتفاع معدل الضحايا المدنيين بين صفوف الطرفين المتحاربين وعوامل أخرى أدت إلى تعيين أفغانستان في آخر القائمة بدلا عن سوريا. في الأسابيع الأولى من عام 2019 نشر مكتب الأمم المتحدة بأفغانستان (UNAMA) أن عام 2018 كان هو العام الأكثر دموية بالنسبة للمدنيين بأفغانستان حيث سقط أكثر من 3000 قتيل مدني بما يرفع معدل الضحايا المدنيين بنسبة 11 في المئة.

المعهد المذكور يقيم الحالة الأمنية في الدول على ثلاث مستويات: الأمن في المجتمع، ومعدل العنف الداخلي أو الدولي، ومدى كون الحكم عسكريا.

إذا أردنا أن نقيّم وضع أفغانستان من منظور المعايير الثلاث المذكورة سنجد أن معدل التدهور الأمني قد زاد بشكل ملحوظ. تفيد التقارير أن مدينة كابل لوحدها تشهد يوميا عدة حوادث سرقة واختطاف وتهريب للبشر وغير ذلك من الجرائم، وهذا النمط من انتشار الجريمة يؤثر سلبا على الحياة الطبيعية التي يعيشها المواطنون ويُزعزع الحالة النفسية لديهم ويهدد أمن الفرد والمجتمع بشكل مستمر.

أسباب التدهور الأمني في أفغانستان

ظاهرة التدهور الأمني ليست متوقفة على الحالة السياسية والعسكرية وحسب، وإنما تنشأ جذورها من أسس الثقافة في البلد، وتُشكل العوامل الاقتصاديةُ أغصانَها. من العوامل السياسية المغذية لهذه الظاهرة: الفساد بشتى صوره في الجسد السياسي للدولة، والتنافس بين أجهزة الاستخبارات الدولية وشركائها الإقليميين، وتهريب المخدرات، والاستخراج غير القانوني لبعض المعادن من قِبل المافيا الدولية بتعاون من المهربين المحليين وخصوصا من لهم قدمٌ وساقٌ في الأجهزة الحكومية الأفغانية.

المهربون المحليون على ارتباط وتنسيق مع عصابات المافيا الدولية ومن جانب آخر لهم علاقات بالمجموعات الفاسدة داخل الحكومة الأفغانية ولهم علائق كذلك بعناصر داخل تنظيم طالبان، ويؤمّن استمرارُ التدهور الأمني مصالحَ كل هؤلاء المذكورين. التنسيق بين عصابات المافيا الداخلية والدولية وخصوصا في شؤون زراعة وإنتاج وتهريب المخدرات بين صفوف الطرفين المتنازعين قويٌّ إلى درجة أنه أفشل الجهود المبذولة من إدارة مكافحة المخدرات التابعة لوزارة الداخلية وكذلك وزارة مكافحة المخدرات.

من العوامل التي ساهمت في تدهور الحالة الأمنية كذلك: الحياة القروية المفتقدة لأهم مستلزمات الحياة وتسهيلاتها، والفارق الكبير بين الحياة القروية والحياة في المدينة، والأمية، والجهل بالقوانين، والمفاهيم الدينية الزائفة، والرؤية التمييزية بين جنس الرجال والنساء في الأسرة وفي المجتمع، والعنف الأسري والعنف تجاه النساء، وغير ذلك.

العوامل المذكورة تنمي السخط في أذهان الشباب المحرومين في المجتمع وتحث بشكل طبيعي على العنف والاحتراب، كما أن ممارسات الإهانة والاحتقار والعنف تجاه الزوجة وسلب حقوقها تتم كثيرا من قِبل الرجال تحت ظل تبريرات شرعية خاطئة.

مشكلات الفقر والبطالة وعدم الحصول على دخل شهري كافي للأسر تسببت في السنوات الأخيرة إلى مهاجرةِ أعداد كبيرة من الشباب إلى خارج أفغانستان، وإقبالِ البعض على إدمان المخدرات، والتحاق البعض بعساكر الحكومة أو بمقاتلي المعارضة، كما اتجه البعض الآخر إلى السرقة والنهب والقتل وقطع الطريق وغير ذلك من الجرائم. حسب تصريح مستشار الأمن الوطني بأفغانستان فإن هناك خمسون شخصاً على الأقل من العساكر أو المدنيين يخسرون أرواحهم يوميا في أفغانستان، إلا أن الحقيقة هي أن رقم الخسائر في الأرواح والأموال الناتجة عن الحرب الجارية في البلد أكبر بكثير من الرقم المنشور في وكلات الإنباء.

هل ستثمر الجهود الساعية في إحلال السلام؟

يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية صممت هذه المرة على جذب طالبان نحو طاولة المفاوضات عبر إحداث إجماع دولي وإقليمي. إلا أن التعقيدات العديدة والتدخلات من مراكز السلطة العالمية قد جعلت الطريق نحو السلام وعِرا وبعيدا.

حسب ما يبدو فإن الولايات المتحدة الأمريكية في جلسات المفاوضات الستة مع طالبان قد قبلت شرط التنظيم المطالب بانسحاب قوات الناتو من أفغانستان في مدة وجيزة. إلا أن توغل داعش المتزايد في مختلف ولايات أفغانستان قد يؤدي إلى بقاء القوات الأمريكية في السنوات المقبلة. من الشروط التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لطالبان لأجل سحب قواتها من أفغانستان عدمُ وجود أخطار تهدد أمن الولايات المتحدة من أرض أفغانستان.

يُستنتج من مفاوضات خليلزاد مع مندوبي طالبان في قطر أنه لا يوجد تنسيق متناغم بين وزارة الخارجية الأمريكية وجهاز الأمن الأمريكي حيال قضية السلام بأفغانستان. تسعى وزارة الخارجية ومعها البيت الأبيض إلى إنجاح المفاوضات مع طالبان ومن ثم عرض ذلك أمام المواطنين الأمريكيين كمنجَز في الحملات الانتخابية الرئاسية عام 2020م. أما عرابو سياسة أمريكا الخارجية فلديهم خططٌ مختلفة تهدف إلى منع توسع الاقتصاد الصيني على مستوى العالم ومنع التقدم العسكري الروسي وكذلك منع إيران من امتلاك السلاح النووي وغيرها من الأهداف الإقليمية التي يتضح منها اعتزام الولايات المتحدة الأمريكية تطويل بقائها في أفغانستان.

تعتقد طالبان أن داعش مشروع غربي وذريعة لتواجد قوات حلف الناتو لمدة طويلة في أفغانستان. يرى تنظيم طالبان أن الدول الغربية بعد الخسائر المتعددة التي تكبدتها في أوكراينا وسوريا تعتزم زعزعة الأمن في دول آسيا الوسطى إلى حدود روسيا وذلك من خلال داعش.

تُظهر الولايات المتحدة الأمريكية لطالبان أن داعش تهدد مصالح كلٍ من أفغانستان وأمريكا، لذا ينبغي تنظيم الجدول الزمني لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان على نحو يتزامن فيه اكتمال سحب القوات الأمريكية مع إزالة جذور داعش من أفغانستان بالكلية. في تلك الحالة فإنه يُتوقع انضمام طالبان إلى الحكومة الأفغانية دون نزع سلاحها على أساس اتفاقية واضحة ومضمونة يتم توقيعها مع الأجنحة السياسية الأفغانية ويُحتمل إعداد الاتفاقية والإشراف عليها من قِبل الأمم المتحدة عبر إحدى الدول الأروربية.

النتائج المتوقعة للتدهور الأمني في أفغانستان

يُعتبر الأمن أهم مقومٍ للتنمية في كل من المجال السياسي والاقتصادي والثقافي كما يُعتبر ركيزة يقوم عليها تقديم الخدمات ويمهد السبل للعمل بالقانون وتعزيز العلاقات الدولية ورفع كفاءة إدارة الحكومة ومنح المواطنين حقوقهم. وفي حال اختلال الأمن فسينفلت الأفراد من منظومة القوانين وسيستشري الفساد في أذرع الحكومة وتنتشر الأمية بين الناشئة والشباب وتضيع فرص الاستثمار وتقل جودة الخدمات الصحية وتكثر البطالة وتتزعزع قيم العدل والحرية والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية، وتبرز نتيجة لذلك أزمات أخرى في المجتمع. لذا ينبغي وضع السلام على رأس قائمة الأولويات والتضلع برؤية تتسم بالواقعية والموضوعية. أما الاستعجال والتهور فمن الممكن أن ينتج عنها مشاكل كثيرة أخرى بدلا عن إحلال السلام العادل والمستمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *