الحروب الراهنة، والسلام العالمي المفقود

مقدمة

الحادي والعشرين من سبتمبر هو اليوم العالمي للسلام. السلام من أقدم احتياجات وآمال المجتمعات الإنسانية ويرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن. إذا أردنا أن نُعرّف الأمن وفق الرؤية المعاصرة (وتحديدا وفق تعريف مدرسة كوبنهاج) فإنه يعني انعدام وجود أي تهديد للإنسان، ويشمل ذلك التهديدات العسكرية والإلكترونية. وفق التعريف المذكور فإن السلام والأمن قد تعرضا في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين إلى مخاطر وتهديدات شديدة. في تحليل هذا الأسبوع سنتطرق إلى قضية السلام وما يُهدده، مع إلقاء نظرة على الحروب الراهنة في العالم المعاصر وخسائر الحروب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحاجة العالم الماسة إلى السلام.
السلام؛ ضالة العالم المعاصر
بصورة عامة فإن السلام هو حالة من الاستقرار والأمن داخل البلد، بالإضافة إلى علاقات متبادلة سلمية مع الدول الأخرى. أما في واقعنا المعاصر فإن هذا التعريف لا يعدو أن يكون حبرا على ورق. حيث إن حكام الدول يسيئون الظن بنظرائهم ويسعى كل منهم إلى توطيد حُكمه مما يؤدي إلى تهديد السلام. بطبيعة الحال ليست الحروب فقط هي التي تهدد عالمنا اليوم، وإنما هناك تهديدات أخرى مثل الاحتباس الحراري وذوبان كُتل الجليد في القطب الشمالي وحرائق غابات الأمازون – والتي تُسمى برئة العالم لأهميتها في الحفاظ على البيئة – والتدخل العسكري في الدول بمظهر “التدخلات الودية”، والتوزيع الجائر للتسهيلات بين سكان العالم، وتدفق اللاجئين من الدول النامية إلى الدول المتقدمة، والهجوم على بعض الدول تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، وسعي بعض الدول للحصول على مصالح وثروات على حساب الدول الأخرى، والأعمال الإرهابية، والجوع والفقر والبطالة.
والجهود التي يبذلها البشر لمكافحة التهديدات المذكورة إنما هي في الحقيقة تصب في سبيل الوصول إلى السلام العالمي، ومن هذه الأنشطة تأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والتي جعلت الحفاظ على السلام أولى أولوياتها، حيث نصت عليه في المادة الأولى من ميثاقها التأسيسي. كما اعتمدت هيئة الأمم مواثيق عديدة لحفظ السلام ومنع استخدام العنف. إلا أن تأثيرات الحرب الباردة أدت إلى إغفال الكثير من هذه المواثيق.
مع انتهاء الحرب الباردة وبدء نشاط النظام العالمي الجديد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تم التضحية بالسلام والأمن الدولي لأجل سياسات العديد من الدول، وصارت كل جماعة وكل دولة تعرّف السلام العالمي وفق رؤيتها وأهدافها.
الحروب الجارية في العالم المعاصر
الحرب اصطلاح يُطلق على أعمال القهر التي تُعملها دولة على دولةٌ أخرى لتُخضعها حسب ما تريد. يرى النظّار المشهور كلاوزويتز أن “الحرب استمرارٌ للسياسة عبر وسائل مختلفة”. في عالمنا المعاصر ترتبط الحروب بعوامل نظرية وعملية معقدة. كما أن كيفية الحرب تتعلق بمستوى الصناعة. تُهدد الحروب عالمنا المعاصر بشكل حاد. من جانبٍ فإن الأسلحة المُستعملة كفيلة بإحداث أضرار فادحة وقد تتسبب الحروب المحدودة في صراعات بين عدة دول. اشتعلت الصراعات بين جماعات ودول عديدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وازدادت حدتها يوما بعد يوم ودخلت معظم الدول في دوامة هذه الصراعات. وفق دراسات معهد الاقتصاد والسلام المنعقدة عام 2019 فإن عددا من الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، مصر، السودان، السودان الجنوبية، فلسطين، إيران، تركيا، الصومال، نيجيريا) تقاسي أعلى درجات التدهور الأمني وتفتقد بشكل كلّي للسلام.
الحرب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ليست ظاهرة جديدة وإنما هي ظاهرة ترجع إلى زمن اكتشاف النفظ في تلك المنطقة. من جانبٍ آخر فإن وجود حكومات مستبدة وعميلة للغرب أدى إلى قيام ثورات شعبية على الحكومات، ومن ذلك ما حصل من اضطرابات ثورية عام 2011. هذه الاضطرابات التي يُعنون لها بالربيع العربي ليست إلا ثورات شعبية على الفساد والاستبداد في تلك الحكومات.
من جانبٍ آخر فإن الاضطرابات التي نشأت في الدول المختلفة مثل الحروب الأهلية في أفغانستان، وأزمة فنزويلا، وأوكراينا، وباكستان، وميانمار، والكونغو وغيرها تتحرك بسبب أيدي خفية تنتمي للدول الكبرى. في الحقيقة فإن اتحاد الدول وكسب الحلفاء الجدد عبر إخضاع الأطراف الأخرى أو تغيير سياساتها الخارجية لأجل الغلبة في المنافسة مع الدول الأخرى يُسبب الاضطرابات الأمنية في هذه الدول. مع أن الدول الكبرى في الظاهر هي المدافعة عن حقوق الإنسان والمدونة للمواثيق الحقوقية إلا أن التزامها بهذه القوانين مشروط بعدم تعارضها مع مصالحها.
يُطرح سؤال يقول: من المستفيد من الحروب الراهنة، في حين أن الإنسانية بشكل عام متبرئة من الحرب؟ إذا توقفت الحروب فإن الدول المتوغلة في الصراعات لن تُضطر لشراء السلاح من الدول المصُنّعة الكبرى. الشركات المُصنعة للسلاح والمواد الكيميائة تخلق ذرائع لتقدر على بيع مُنتجاتها ولذا تُخطط لاستمرار الحروب في العالم، وبالتالي تدفع ضرائب أكثر لحكوماتها فتستفيد حكوماتها وتربح هي بالمليارات. توجد هذه الشركات في مُعظم دول العالم، وهناك 6 شركات لديها أكبر قدر من مبيعات السلاح في العالم وكلها أمريكية، وهي الرابح الأكبر من هذه الحروب.
خسائر وضحابا الحروب بعد الحادي عشر من سبتمبر
وفق دراسة معهد الاقتصاد والسلام عام 2019 فإن هناك 76 دولة من بين دول العالم البالغ عددها 163 قد شهدت اضطرابات أمنية، وتتصدر هذه القائمة دولةُ أفغانستان وتليها سوريا والسودان الجنوبية واليمن والعراق. في عام 2014 فقط قُتل أكثر من 320,000 شخص، بما يزيد على عدد القتلى عام 2006 بنسبة 287%. مُعظم القتلى سقطوا جراء الحرب الأهلية في سوريا وقد بلغ عددهم عام 2014 نحو 180,000 شخص. فيما يلي نبذة عن أوضاع الحرب في عدد من الدول والتي تُظهر بجلاء الآثار المدمرة التي تتسبب فيها الحروب:
۱. أفغانستان
مع أن الحرب في أفغانستان بدأت قبل أربعة عقود، إلا أن الحرب التي اشتعلت عام 2001م بين الحكومة وطالبان مازالت على قدم وساق، وكبدت الشعب الأفغاني خسائر كثيرة. خسر الطرفان المتنازعان في هذه الحرب كثيرا إلا أن الخسارة الكبرى قد تحملها الشعب الأفغاني. وفق دراسة معهد واتسون، قُتل في حروب أفغانستان نحو 111,000 شخص في الفترة من عام 2001 إلى عام 2015م. ووفق تصريحات الرئيس الأفغاني أشرف غني فقد قُتل بين عامي 2015 و 2018م نحو 28,592 جندي وشرطي أفغاني. لم يتم تقدير المصاريف التي استُنزفت في الحرب من قِبل الحكومة الأفغانية، لذا سنقتبس من الدراسة التي قامت بها جامعة أكسفورد. تُخمن المصاريف التي تم إنفاقها في الحرب بأفغانستان بما يُعادل 20.815 مليار دولار في العام، في حين أن الميزانية التطويرية تصل إلى 1.6 مليار دولار. تستخدم طالبان في حربها تكتيكات قتالية مختلفة تشمل الألغام والسيارات المفخخة والصواريخ والمناظير الليلية والليزر، ويتم إمداد طالبان بالمعدات العسكرية من قِبل إيران وروسيا كما تأخذ الأسلحة من الجيش الأفغاني في بعض المعارك وتكون معظم هذه الأسلحة أمريكية ويستخدمونها في الحرب على الجيش الأفغاني. القوات الأفغانية أيضا تملك أسلحة متطورة وقد جُهز عدد محدودٌ بها ويتم استخدامها في بعض العمليات الخاصة، ولأجل دحر طالبان في مناطقهم فإنهم يتوسلون بالقصف الجوي والمروحيات الحربية والتي تتسبب في كثير من الأحيان إلى وقوع وفيات بين صفوف المدنيين بسبب عدم توخي الدقة والتنسيق.
۲. اليمن: الحرب الراهنة في اليمن مستمرة منذ عام 2015م، وتوجد عدة روايات حيال الحرب في اليمن. تقول الرواية الأولى أن الحرب تجري بين الحكومة اليمنية والحوثيين، والرواية الثانية تفيد أن الحرب بين الشمال والجنوب، والرواية الثالثة ترى أن الحرب بين القوى العالمية الخارجية، وتعتقد الرواية الرابعة أن الحرب في اليمن هي حرب الجياع. نُشر تقرير سري عام 2015م من قِبل الاستخبارات العسكرية الفرنسية أن السعودية والإمارات تستخدمان الأسلحة الأمريكية والفرنسية في حرب اليمن، وتشمل الدبابات والأسلحة الليزرية وأنظمة الصواريخ التي اشترتها من فرنسا وأمريكا تحت مسمى الدفاع فقط، ويستخدمونها في استهداف المدنيين. وبالإضافة إلى شراء الأسلحة من أمريكا وفرنسا وإنجلترا فقد اشتروا أنظمة تتبّع إحداثيات من السويد وصواريخ بحرية من كوريا الجنوبية وسفن حربية من إيطاليا وأسلحة إطلاق صواريخ جوية من البرازيل.
ومن الجدير بالذكر أن للحوثيين دور كبير في مقتل الآلاف في اليمن حيث وقع ذلك بطرق مختلفة وبذرائع عديدة. يُذكر أنه قُتل في اليمن نحو 70 ألف شخص كما أن المبالغ التي تم استنزافها في هذه الحرب بلغت 14 مليار دولار.
۳. سوريا: الحرب السورية مندلعة منذ عام 2011م حتى الآن وهي واقعة بين مؤيدي ومعارضي نظام بشار الأسد، وقد ازدادت هذه الحرب تعقيدا بعد تدخل الدول الأجنبية في الملف السوري. قُتل في هذه الحرب على أقل تقدير نحو 470,000 شخص، وتعتقد الهيئات المتابعة لشؤون حقوق الإنسان في سوريا أن عدد 100 ألف قتيل يُضافون للعدد المذكور إلا أنه لا توجد الأدلة التي تشهد على ذلك، كما أن هناك 400 ألف شخص قتلوا أو فُقد أثرهم. عدد السوريين الذين لجؤوا للخارج يبلغ 5.6 مليون كما أن هناك 6 ملايين نازح داخلي في سوريا. استخدم بشار الأسد في هذه الحرب ما تيسر له من مليشيات طائفية وأسلحة دمار شامل وصلته من روسيا وإيران وبعض الدول الأخرى. وفق بعض الإحصائيات فقد كلّفت الحرب في سوريا نحو 685 مليار دولار.
۴. العراق: الحرب استمرت في العراق منذ 2003 وحتى 2018، وقد بدأت بهجمات ائتلاف عالميّ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، واستمر الائتلاف حتى عام 2011م. ومع خروج القوات الأجنبية من العراق ظهرت فرقة داعش مما أدى إلى استمرار الحروب الداخلية. قُتل في هذه الحرب نحو 182,000 شخص بشكل مباشر، إلا أن العدد الإجمالي للقتلى يبلغ مئات الآلاف، وأما الجرحى فلا يُعلم عددهم وهم بلا شك أكثر من القتلى. معظم القتلى سقطوا بسبب القاذفات الجوية وقذائف الهاون والطلق الناري والهجمات الانتحارية والألغام.
لأجل إعادة إنشاء العراق هناك حاجة لمبلغ 100 مليار دولار. وفق ما يُلاحظ فإن معظم الحروب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقعت في جغرافيا العالم الإسلامي، وضحايا هذه الحروب هم المسلمون.
العالم بحاجة إلى السلام
العالم اليوم وخصوصا العالم الإسلامي يحتاج إلى السلام أكثر من أي زمنٍ آخر. الحروب التي تم ذكرها يتم إضرامها في الغالب من قِبل جهات تُعرف بالعالم المتقدم، إلا أن سكان تلك البلاد يقطنون في أماكن تتمتع بالأمن والرخاء، أما البلدان الأخرى فإنها تقاسي لظى الحروب. بدراسة أوضاع العالم الراهنة نرى أن السلام هو أهم الضروريات، ولأجل التغيير على البشر أن يوائموا أهدافهم بمتطلبات الزمن المعاصر، ولأجل تقليص الفجوة بين الدول عليهم أن يسعوا لإزالة التضاد والصراعات وأن ينشروا قيم الإنسانية والسلام والتسامح بين الأجيال القادمة. على الغرب أن لا يقصر مساعيه على تحصيل السلام لدوله، وإنما عليه أن يسعى ليمهد السلام لكل البشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *