الحرب الأفغانية من وجهة نظر عقلاء الأمريكان

عندما نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغريدة قبل أسبوعين متمضنة إعلان إيقاف المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وطالبان، صرح عقلاء الأمريكان بأن دور الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان قد انتهى وباء بالهزيمة. تأتي ضمن هذه الشهادات مقالة نُشرت على مجلة “فورين بوليسي” بعنوان: (انهزمنا في حرب أفغانستان)، من تحرير ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد، [1] وقد لفت المقالُ أنظار المجتمع الأمريكي.

لذا تم تخصيص تحليل الأسبوع لدراسة وتفكيك المقال المذكور ليكون موضع تأمل لكل من يُضحون بالدبلوماسية والحوار في سبيل التطرف والحرب وما زالوا يعتقدون أن الحل لمشكلة أفغانستان يكمن في العمليات العسكرية.

انهزمنا في حرب أفغانستان!

بدأ الكاتب ستيفن والت مقالته بمقدمة ذكر فيها أن الولايات المتحدة الأمريكية خسرت الحرب في أفغانستان بعد 18 سنة أنفقت فيها مئات المليارات من الدولارات وقدمت فيها أرواح آلاف العساكر، وأنه بات من الضروري أن تُنهي الولايات المتحدة هذه الحرب. ويضيف ستيفن أن هزيمة الولايات المتحدة ليست هزيمة عسكرية وإنما تعني فشلها في تأسيس دولة مستقرة في كابل تتمكن من التحكم بزمام الأمور بعد خروج القوات الأمريكية. سبب هذه الهزيمة وفق رأيه بسيط للغاية وهو أنه: ” لا يمكن تعيين مصير أفغانستان من قِبل أجانب يبعدون عنها آلاف الأميال”. ليس ستيفن وحيدا في رأيه هذا بل يُشاركه الكثيرون داخل وخارج الحكومة الأمريكية، ويؤكدون جميعا أن السعي وراء الانتصار العسكري في أفغانستان لن يُجدي نفعا، وأن ليس ثمت حلٍ سوى إنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية.

لماذا طالت مدة الحرب في أفغانستان؟

أسباب طول الحرب في أفغانستان متعددة، منها مقاومة طالبان طيلة مدة 18 عاما، والفساد المستشري بين أركان وإدارات الحكومة الأفغانية، والخسائر المدنية الفادحة، وعدم استسلام الجنرالات الأمريكيين للهزيمة وإصرارهم على السعي للانتصار في ميدان الحرب، والتقارير المُرسلة من هؤلاء الجنرالات إلى رؤساء بلدهم والتي تعكس صورة غير حقيقية عن ميدان الحرب.

هزيمة طالبان عام 2001م كانت هزيمة مؤقتة وسرعان ما انتفضت بعدها الحركة وعاودت أنشطتها. استطاعت حركة طالبان أن تتفق مع الحكومة الباكستانية وتحصل على حواضن آمنة لها هناك، كما أن باكستان لديها أسبابها التي دفعتها لإيواء الحركة على أرضها ودعمها – في الخفاء – وما زالت تستند على تلك الأسباب حتى الآن. لم تقدر الولايات المتحدة الأمريكية أن تُقنع باكستان على خلع يدها من دعم طالبان. وخلال مدة 18 عاما تحول تنظيم طالبان إلى جماعة دؤوبة وباتت حاليا تملك الخبرة والقوة أكثر من أي وقتٍ مضى. في الجانب المقابل نجد أن القوات الأفغانية تفتقد للانتظام والتنسيق الكافي بسبب الفساد الضارب على أطنابها، ومازالت القوات الأفغانية معتمدةً على الدعم الأمريكي المالي والتقني. وفق رأي ستيفن وبالنظر في وضع الحكومة الأفغانية المتردي نستطيع أن نخلص إلى أن تدفق مليارات الدولارات إلى البلد وإنفاقها دون وجود آليات منظمة أدى إلى انتشار الفساد واهتراء جميع إدارات البلد. لقد منع الفسادُ أفغانستان من أن تملك جهاز مخابرات قوي ومنظم كما أن الجيش الأفغاني لم يتحول خلال مدة 18 سنة إلى جيش منيع وقوي. ولهذا فإن قوات طالبان تقدر حاليا على شن الهجمات العسكرية في جميع ولايات أفغانستان ولا تقدر القوات الأفغانية على صدها. بالإضافة إلى ما ذُكر من اشتداد عود تنظيم طالبان يوما بيوم وانتشار الفساد والاختلاس في الإدارات الحكومية العسكرية والمدنية فقد تسبب وقوع الخسائر المدنية جراء هجمات القوات الأمريكية وغاراتهم الجوية في تقوية مزاعم طالبان وتجنيدها لمقاتلين جدد في أفغانستان. وقوع الخسائر في أرواح المدنيين بالمجتمع الأفغاني المتمسك بتقاليده وشعائره الدينية وأواصره العِرقية يجر إلى نتائج كارثية. قال الجنرال ماك كريستال يوما – وقد كان القائد العام للقوات الأمريكية وقوات الناتو عامي 2009 و 2010م في أفغانستان – : عندما نقتل شخصين من بين عشرة محاربين ينتمون لحركة طالبان فإننا نظن أن من تبقى منهم ثمانية مقاتلين، والحقيقة هي أن عددهم يزداد ليصل إلى 12 وحتى 20 شخصا، والسبب أن لكل مقتولٍ منهم أخٌ وابنٌ ووالدٌ ينضمون لطالبان للأخذ بثأر قتيلهم، وإذا كان هذا هو ما يحصل عندما يُقتل أحد مقاتلي طالبان، فإن مقتل المدنيين له عواقب أخطر بكثير تهدد الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية. الحقائق المذكورة أعلاه وخصوصا الأحداث التي وقعت بعد عام 2008م لم تغير سياسة أمريكا العسكرية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تؤكد على استمرار الحرب لأسباب خاصة بها. حسب رأي ستيفن، تُعد أمريكا دولة قوية بإمكانها الاستمرار في الحرب لسنوات عديدة دون تكبد خسائر فادحة، ومن جانبٍ آخر فإن الجنرالات لم يُبدوا استعدادا لقبول الهزيمة كما أن كثيرا منهم لم يكونوا يقدمون للرؤساء الأمريكان صورة واقعية تعكس الحقائق على أرض أفغانستان وإنما كانوا يقدمون وعودا بالانتصار. العوامل المذكورة بالإضافة إلى ضغط مؤيدي الحرب مثل مستشار الأمن السابق جون بولتن تسببت في إحجام الولايات المتحدة عن تحويل سياستها الحربية إلى مسار دبلوماسي مبنيٍّ على الحوار.

كيف سيكون وضع أفغانستان عقب خروج القوات الأمريكية؟

في الحين الذي يرى فيه قادة الولايات المتحدة الأمريكية أهمية إنهاء الحرب في أفغانستان، تختلف الآراء حول طبيعة الأوضاع في أفغانستان عقب خروج القوات الأمريكية منها.

يرى المسؤولون الأمريكيون أن أي أزمة تبقى بعد خروج القوات الأمريكية تتعلق بالأفغان وحدهم وهم من يتوجب عليهم التصدي لها. إلا أن بعض المحللين خارج الحكومة الأمريكية يعتقدون أن الولايات المتحدة ترغب بخروجها أن تتفادى تكبّدَ الخسائر المباشرة في الأرواح والأموال وأن يوكلوا مسؤولية تنظيم عواقب الحرب التي استمرت 18 سنة للأفغان، كما استطاعت الولايات المتحدة سابقا أن تسحب قواتها من حرب فيتنام عام 1973م على إثر معاهدة باريس دون أن تتكفل بإصلاح الأوضاع المتردية هناك. يقول المحللون السياسيون خارج الحكومة الأمريكية أن حكومة أفغانستان في الوضع الحالي تشبه وضع حكومة فيتنام في الفترة المُشار إليها أخيرا.

وكيفما يكون وضع أفغانستان عقب خروج القوات الأمريكية فإن ذلك لا يؤثر على ضرورة إنهاء حرب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان. حرب أفغانستان أطول حرب خاضتها القوات الأمريكية في تاريخها، ولن تقبل الولايات المتحدة بتبعات هذه الحرب والخسائر الناجمة عنها إذا استمرت لسنوات طويلة أخرى. كما أن أوضاع المنطقة لا تُشبه أوضاع بداية القرن الحادي والعشرين. تقدر كل من روسيا والصين وإيران وحتى باكستان أن تجعل أفغانستان ساحة خطرة تُهدد الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جانبٍ آخر يقول أندريو – أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن الأمريكية – أن الساسة الأمريكيين يؤكدون على أهمية الانتباه للمخاطر المترتبة على التواجد الاقتصادي والعسكري لروسيا والصين في المنطقة، ولهذا من الضروري تقليص الحرب في أفغانستان قدرَ المُستطاع.[2]

باختصار، إذا كانت الولايات المتحدة ترى ضرورة إنهاء الحرب في أفغانستان، فإن مسؤولية الأفغان – بما فيهم منسوبي الحكومة وطالبان – أن يحولوا دون تحول أفغانستان إلى فيتنامٍ أخرى وزوال النظام الموجود بمؤسساته العسكرية والمدنية. ولن يكون ذلك ممكنا ما لم تتفق الحكومة مع حركة طالبان ويجعلوا الحفاظ على البلد ومؤسساته على رأس الأولويات بدلا عن السعي خلف المصالح الفردية والحزبية.

النتائج

بعد 18 عاما من الحرب والتدهور الأمني في أفغانستان، وصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى قناعة بأن عليها إخراج قواتها من أفغانستان قبل أن تتبدل إلى مستنقع مُميت. مع أن المحللين الأمريكيين يُبدون قلقهم من الأوضاع في أفغانستان بعد خروج القوات الأمريكية، إلا أن ذلك لا يُغير من قناعتهم حيال هزيمة الولايات المتحدة في الحرب وضرورة سحب قواتها من أفغانستان. في هذه الحالة على الأفغان أن يعتبروا بما آلت إليه دولة فيتنام وأن يتعظوا كذلك بالأوضاع المأساوية التي خيّمت على أفغانستان فترة الحروب الأهلية التي اندلعت عقب سقوط النظام الشيوعي في أفغانستان.

على المسؤولين الأفغان كذلك أن يُدركوا أن القوات الأمريكية ستترك البلد عاجلا أم آجلا وأنه ما من سبيل سوى التضحية لأجل استقرار السلام. كما على حركة طالبان أن تُدرك أن أوضاع أفغانستان تختلف عن أوضاعها في تسعينات القرن الميلادي الماضي، مع استحضار أن التأكيد على المطالب التي لا يقبلها المجتمع الأفغاني والجيل الحالي سيؤدي إلى إخفاق الحركة في المفاوضات. لذا لا يوجد سبيل يقود إلى السلام والازدهار في أفغانستان سوى التعايش وقبول الآخر وغض الطرف عن المطالب الحزبية الضيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *