الاحتفال بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين

التاسع من نوفمبر/2019م الموافق للثاني عشر من ربيع الأول شهد في أفغانستان احتفالا بميلاد نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الجانب الآخر من الكرة الأرضية كان هناك احتفال مختلفٌ تماما. احتفلت الأمة الأوروبية في هذا التاريخ بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين بألمانيا. أُقيم الاحتفال بوضع الزهور على الحفر المتبقية من الجدار من قِبل رئيسة الوزراء الألمانية أنكيلا ميركل وبعض الزعماء الأوروبيين الآخرين، واستمر الاحتفال المتسم بالبساطة لمدة أربعة أيام.

السيدة مركل والتي وُلدت في برلين الشرقية ذكرت في الحفل المذكور أن وقوع الجدار كان حدثا كبيرا في تاريخ أوروبا وقالت: “لا يوجد جدارٌ يفصل بين الناس ويحدّ من حرياتهم؛ ولا يمكن إيقاعه”. كما أضافت: “القيم التي بُنيت عليها أوروبا – الحرية والديمقراطية والمساواة وتطبيق القانون- ليست إحداها بديهية، وينبغي إحياء كل منها بعد كل فترة”.

وفي سياق إبداء قلقها حيال الديمقراطية في أوروبا قالت: “ليس لدينا أي عذر، علينا أن نؤدي واجبنا تجاه الحرية والديمقراطية”. هذا في حين أن ألمانيا تواجه مداً من تحركات اليمينيين الراديكاليين الذين يسعون للوصول إلى الحكم. وهذه الأحزاب اليمينية بالإضافة إلى مباينتها قلبا وقالبا للديمقراطية، لديها ميول تعصبية عرقية ومواقف تعادي استقبال اللاجئين.

صرح رئيس ألمانيا فرانك والتر اشتاين ماير في كلمته بعد إلقائه التحية على الدول المجاورة: “لم يكن لتحدث الثورات السلمية في أوروبا الشرقية ولم تكن ألمانيا لتتحد لولا شهامة البولنديين الأحرار، والمجر، والتشيك، والسلوفاكيين”. إلا أنه لم يُشر – وكذلك بقية المتحدثين- إلى تضحيات الشعب الأفغاني التي قدمها في سبيل هدم جدار برلين. الشعب الأفغاني قدم مليون ونصف مليون شهيد، وزلزل – على حساب تدمير 90% من أرضه- أركان الاتحاد الجماهيري الشيوعي الذي حكم لمدة سبعين سنة، ومهد السبيل لتحرير الشعوب المقهورة بما فيها ألمانيا الشرقية وبعض الدول الأوروبية الأخرى.

مع أن السفارة الألمانية في كابل كتبت على موقعها الإلكتروني: “في شهر نوفمبر الجاري، نحتفل بالذكرى الثلاثين لهدم جدار برلين، وقد كان لتضحيات الشعب الأفغاني دور في هذا”، إلا أن بيان السفارة لم يتحدث على ضخامة هذه التضحيات والضريبة الكبيرة التي يدفعها الشعب الأفغاني بتقديم دماء العشرات من شبابه.

كيف أُنشِئَ جدارُ برلين؟

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1947م، قامت الدول المنتصرة الأربع – روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا- بتقسيم ألمانيا المهزومة إلى أربع أجزاء. في البداية صارت ألمانيا تُدار من مفوضية تشتمل على مندوبي الدول الأربع ، ويتناوبون رئاسة المجلس بعد كل فترة. ثم اتُخذ قرار يقضي بأن تحكم روسيا الأجزاء الشرقية من ألمانيا، وتحكم الأجزاء الغربيةَ الدولُ الثلاث الأخرى – أمريكا وإنجلترا وفرنسا- بشكل مشترك.

في عام 1948م قامت أمريكا وإنجلترا وفرنسا بتوحيد الأجزاء التي كانت تحت حُكمها، وشكّلوا جمهورية ألمانيا الفدرالية والتي اشتُهرت بألمانيا الغربية واشتملت هذه المساحة على نواحي برلين الغربية. في أكتوبر 1949م أسس الاتحاد السوفييتي دولة شيوعية في الجزء الألماني الخاضع لحكمه، وأدى ذلك إلى تشكل جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والتي اشتملت على نواحي برلين الشرقية. مع نشوء الحرب الباردة ازدادت التوترات بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية، مما أدى في النهاية إلى إغلاق الحدود بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية.

في مارس 1961م، وفي خطوة استباقية حاصرت القوات الألمانية الشرقية النقاطَ الحدودية المتصلة بألمانيا الغربية وبدأ العمال بإنشاء الجدار العازل، وباكتماله فُصلت ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية بالكامل، وانفصلت الأُسر التي تتوزع أفرادها على طرفي الجدار لمدة 28 سنة.

جدار برلين – المعروف بالعازل الحديدي – والذي صار الأيقونة الأشهر للحرب الباردة أُنشئ على طول 155 كليومترا وبارتفاع 3.5 أمتار، وجزؤه الذي يقع داخل برلين يبلغ 45 كليومترا. فصل هذا الجدار شعب ألمانيا لمدة ثلاثة عقود بشكل فج وغير إنساني. خلال السنوات التي كان فيها الجدار موجودا قتِل تحته 125 شخص وجُرح بشدة نحو 200 شخص. ومن بين القتلى هناك 32 شخصا قُتلوا في حين أنهم لم يعتزموا عبور الجدار أصلا، كما أن 80% من القتلى تحت سن الثلاثين، ومن بينهم 8 نساء.

في الفترة بين 1961م و 1989م وُفّق نحو خمسة آلاف شخص للفرار نحو برلين الغربية، وقد حصلت معظم محاولات الهروب في الفترة التي كان العازل فيها مجرد سلكٍ شائك. كما أن البعض استطاعوا الهروب عبر نوافذ المباني المجاورة للحائط. وبعد إنشاء الجدار صارت الناس يهربون عبر أنفاق القطارات، وأنابيب الصرف الصحي وحفر الأنفاق تحت الأرض.

دور الأفغان في سقوط جدار برلين

هجم الاتحاد السوفييتي الشيوعي على أفغانستان بتاريخ 27 ديسمبر/1979م وتم اغتيال رئيس أفغانستان الشيوعي (حفيظ الله أمين) مع أسرته على تلٍّ يُدعى تاج بيك ونُصب مكانَه ببرك كارمل – أحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني – رئيسا للجمهورية الأفغانية، حيث كان على علاقات وطيدة بالاتحاد السوفييتي. وقد لاقى هذا الهجوم ردة فعل شديدة من الشعب الأفغاني، وانضمت فئام الشعب إلى التنظيمات الجهادية للدفاع عن حرية الوطن ومقدسات الشعب، وقد كانت التنظيمات قد اتخذت مقراتها في باكستان. كما أن الآلاف من الشباب المنتمين للدول الإسلامية المختلفة انضموا إلى كتائب المجاهدين الأفغان بناء على أخوّة العقيدة والدين.

بالإضافة إلى ما ذكر، قامت عشرات المؤسسات الإسلامية والغربية بتقديم المساعدات الصحية والتعليمية والخيرية للمهاجرين الأفغان. كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الإسلامية بما فيها السعودية وإيران وباكستان بتقديم المساعدات المالية والتسليحية والإنسانية لكتائب المجاهدين. وعلى الصعيد السياسي وُجد إجماع دولي (يُستثنى منه عدد يسير من الدول) يُندد بانتهاكات الاتحاد السوفييتي في حق أفغانستان، ويؤازر موقف الشعب الأفغاني والمجاهدين الأفغان بصفتهم مدافعين عن الوطن وممثلين حقيقيين للشعب الأفغاني.

انهيار الاتحاد السوفييتي؛ وبدء تساقط جدار برلين

الدعم الكامل المُقدم من المجتمع الدولي؛ واتحاد وتضحيات الشعب الأفغاني سلب من الاتحاد الروسي قدرتَه على المقاومة. وبعد اعتلاء ميخائيل جورباتشوف كرسي الرئاسة في روسيا، اعتزم أن يضع نهاية للحرب في أفغانستان، وذلك من خلال تصعيد الهجمات وزيادة عدد المقاتلين الروس في أفغانستان، وسرعان ما انتبه إلى أنه لن ينتصر عبر الحرب، مما حدا به إلى اللجوء عبر بوابة المفاوضات، ووقع مذكرة صلح جنيف في أبريل عام 1988م وبدأ بسحب قوات بلاده من أفغانستان بشكل تدريجي، إلى أن تم سحب القوات خلال عام، وفي تاريخ 15 فبراير/1989م خرج آخر جندي روسي من أفغانستان، وقد أجمعت دول العالم على أن الاتحاد الروسي قد خسر الحرب في أفغانستان. وقد ولّدت هذه الهزيمة فيما بعد كل الثورات والنهضات الشعبية في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.

مع أن الحكومة العميلة مازالت حتى ذلك الوقت قائمة في كابل ولم ينتصر المجاهدون بشكل كامل، إلا أنه بخروج القوات الشيوعية من أفغانستان لم يعد الاتحاد السوفييتي يملك القدرة التي تمتع بها عقودا طويلة. ومن ثم استطاعت الدول الأسيرة والمغلوبة – تحت براثن الدب الشيوعي الأحمر – أن تنتفض واحدة تلو الأخرى وأن تسعى نحو حريتها. شعب ألمانيا الشرقية الذي عانَى كثيرا من الفقر والعبودية والاضطهاد خرج في مظاهرات واسعة في أواخر عام 1989م منددا بالحاكم الشيوعي الأخير (أريش هونكر) وببقية القادة الشيوعيين. ومع اتساع حركة المظاهرات اضطُر الاتحاد السوفييتي إلى الانحسار ووعد الشعب – وعد كارهٍ – بأنه سيُلبي مطالب الشعب وسيُزيل جدار برلين العازل. إلى أن قام المعترضون بهدم الجدار بأيديهم في يوم 9/نوفمبر، وحفروا ثقبا في الجدار هربَ منه الآلاف باتجاه برلين الغربية.

هدْم الجدار بهذه الصورة أصاب معنويات النظام الشيوعي الذي يحكم ألمانيا الشرقية في مقتل وسلبهم القدرة على مقاومة الثورة الشعبية. وبعد شهر من سقوط جدار برلين انهارت دولة ألمانيا الشرقية، وتلتها دول القطب الشيوعي الشرقي في السقوط واحدة تلو الأخرى؛ إلى أن أُعلن رسميا عن انتهاء الحرب الباردة عام 1991م.

الخلاصة

إذا سلّمنا بأن الأفغان لم يلعبوا دورا مباشرا في إسقاط جدار برلين، فلن نستطيع أن نُغفل دورهم الكبير وغير المباشر في إسقاط هذا الجدار وتحرير الشعوب الأسيرة من سلطة الاتحاد السوفييتي. وذلك لأن المقاومة الشجاعة التي أبداها الشعب الأفغاني وتضحياته الجمة في سبيل مكافحة الاحتلال السوفييتي هما السبب في إسقاط قوة وهيبة الاتحاد السوفييتي الذي كان أحد أقطاب القوى الكبرى في العالم، وقد أدى ذلك إلى تحلل دول الاتحاد السوفييتي كلها. الشعب الأفغاني خلال عقد من الزمن (1978م إلى 1989م) قدم تضحيات كبيرة لتحرير العالم من شبح الشيوعية. من هذه التضحيات استشهادُ مليون ونصف مليون مواطن أفغاني، وإصابة مليون ونصف مليون مواطن آخر بالإعاقة أو اليتم أو فقد العائل، وتدمير 60% من الأراضي والمقومات الاقتصادية، وهجرة خمس ملايين مواطن بشكل اضطراري للبقاء على قيد الحياة، وكل هذا جزء يسير من تضحيات الشعب الأفغاني. أما الخسائر المعنوية التي تكبدها الشعب الأفغاني فتفوق الحصر. إلا أن ما يُؤسف له هو عدم تفاعل الآخرين مع هذه الآلام. لقد قدمنا الغالي والنفيس وكل ما نملك في جهادنا ضد الاتحاد السوفييتي حتى ينجو العالم من شر الاتحاد الشيوعي المتوحش؛ إلا أن الآخرين – مع الأسف – يتعاونون في إضرام نيران الحرب وإبقاء لهيبها في بلدنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *