قرن من العلاقات بين أفغانستان و روسيا، والارتباطات الأخيرة



يرجع عهد العلاقات الدبلوماسية بين أفغانستان و روسيا إلى فترة حكم أحمد شاه بابا والأمير شير علي خان، أما الاتفاقيات الموقعة بين البلدين فقد بدأت منذ فترة حكم أمان الله خان.

لم تبق العلاقات الأفغانية – الروسية على شكلها الرمزي؛ وإنما أخذت طابعا عمليا ومؤثرا منذ فترة حكم محمد ظاهر شاه ومحمد داود خان وحتى يومنا هذا. بالإضافة إلى المشاريع التنموية في أفغانستان المتمثلة في إعادة التأهيل، والمنح التعليمية والمشاركات الثقافية فإن لروسيا أنشطة توغلية في عمق أنظمة أفغانستان على مستوى التنظير والنفوذ، ومن ذلك الدعم الروسي للأحزاب الشيوعية في أفغانستان وأخيرا دعمهم لبعض التنظيمات الجهادية، مما يدل على دورها المؤثر في أوضاع أفغانستان.

رؤية على قرن من العلاقات الأفغانية الروسية

عندما انتصر أمان الله خان في حرب الاستقلال على إنجلترا، وأعلن استقلال البلد بشكل كامل في السياسات والشؤون الداخلية والخارجية، كانت روسيا من أوائل الدول التي اعترفت رسميا باستقلال مملكة أمان الله خان وأعقب ذلك توقيع اتفاقية تعاون ثنائي بين البلدين. في خطوة تالية تم توقيع اتفاقية عسكرية تعهد فيها الاتحاد السوفييتي بالدعم العسكري لأفغانستان، ووفق هذه الاتفاقية تم إرسال عدد من الطلبة الأفغان للتدريب في مجال قيادة الطائرات الحربية. وفي هذه المراحل كانت هناك مراسلات بين لنين و أمان الله خان.تم تجديد هذه العلاقات مرة أخرى بتوقيع اتفاقية ثنائية في فترة حكم محمد نادر خان بعد إسقاط نظام الغازي أمان الله خان. في فترة حكم محمد ظاهر شاه تم توقيع اتفاقيات أخرى مع الاتحاد السوفييتي وكان المخطط العام لتطوير أفغانستان قد طُرح وتم قيادة تنفيذ السنوات الخمس الأولى من المخطط من قبِل محمد داود خان.

المخطط طُرح للتنفيذ في فترة 1956 إلى 1961، وقد وردت مجموعة من الكوادر الروسية إلى كابل ووضعوا الخطة التطويرية العامة في وزارة التخطيط. وتم إلحاق المخطط بمخطط ثاني وثالث ورابع، إلا أن النجاح كان من حليف المخططيْن الأولين حيث أديا إلى إكمال وافتتاح عشرات المشاريع.

وبما أن محمد داود خان كان مدعوما من الأحزاب اليسارية وتحديدا الحزب الديمقراطي (برجم) كما حدثت تغييرات في الجغرافيا السياسية في المنطقة وحيث أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تثق بباكستان أكثر من ثقتها بأفغانستان؛ لذا كانت العلاقة وطيدة بين أفغانستان وروسيا، ولا يعني هذا أن الطرف الأفغاني لم يسع إلى إحداث الاتزان في العلاقة مع الاتحاد السوفييتي، فقد سعت الحكومة الأفغانية إلى لفت أنظار الجانب الأمريكي لما له من ثقل عسكري وتطور اقتصادي إلا أن هذه المساعي لم تنتج علاقة وطيدة آنذاك. ومع ذلك دعمت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الآونة عددا من المشاريع التنموية في أفغانستان منها مطار قندهار، والبرامج التطويرية في ولاية هلمند، وإنشاء سد كجكي، وغير ذلك.

الاتحاد السوفييتي دعم أفغانستان دعما كبيرا مقارنة بالولايات المتحدة والغرب عموما. وشمل الدعم الروسي جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. تميز الدعم الروسي بتبنيه لمشاريع البنية التحتية والتي أفادت أفغانستان كثيرا، حتى إن المشاريع الممولة من الولايات المتحدة الأمريكية والتي تم تنفيذها في العقدين الماضيين ليست على مستوى المشاريع التي نفذها الاتحاد السوفييتي، حيث إن المشاريع الممولة من أمريكا مؤقتة ولا تدوم طويلا.

مشاريع البنية التحتية المذكورة والقروض طويلة المدى المقدمة لأفغانستان من روسيا جعلت أفغانستان صائرة إلى بلدٍ صناعي، وحيث إنه لم يكن في أفغانستان الفقيرة فيودالات وعمال – على النحو الموجود في الدول الشيوعية – إلا أن المشاريع العديدة أدت شيئا فشيئا إلى تشكيل جمعيات العمال والتي آل أمرها إلى السير في ركاب الأحزاب الشيوعية ورفع الشعارات الثورية المتأثرة بالفلسفة الماركسية.

أمثلة من مشاريع البنية التحتية التي نفذها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان

منشآت القمح والخبز في كابل و بغلان، ومصنع السيارات في جنقلك، وسدود (درونته) و (نغلو) المائية، وقنوات ننجرهار المائية، ومزارع البرتقال في ننجرهار، وطريق النقل بين كابل و مركز بغلان، وطريق النقل بين قندهار و هرات و تورغندي، ونفق جبل سالنج، ومطارات كابل و شيندند وقندهار و كندوز، ومجمعات مكروريان السكنية في كابل، ومستشفى الـ 400 سرير في كابل، وعدة مصانع مثل المصنع الكيميائي بمزار شريف، ومعمل صنع المنازل في كابل، ومنشآت استخراج النفط والغاز في شمال أفغانستان، وإنشاء جامعة بولي تخنيك في كابل، وعشرات المشاريع الأخرى.

بعد انقلاب الحزب الشعبي الديمقراطي في أفغانستان على الحكم، تم توقيع اتفاقيات أخرى إلا أن العلاقات الدبلوماسية الأفغانية لم تبق على ما كانت عليه من رسوم وتقاليد سابقة، وحلت محلها الرؤية الشيوعية. في هذه المرحلة توطدت العلاقة أكثر من كل فترة مضت وكانت تُعقد اللقاءات المشتركة بين الاتحاد السوفييتي وحكومة أفغانستان بشكل علني وكان هناك تواصل مباشر ومستمر. وقد انبنت هذه العلاقات على الأيديولوجيات الشيوعية المشتركة بدل أن تُبنى على احترام سيادة الشعب الأفغاني.

القرن الديمقراطي، مرحلة جديدة من العلاقات

السابع والعشرون من مايو /1919 كان هو اليوم الأول للعلاقات الدبلوماسية بين إمبراطورية روسيا وحكومة أفغانستان. أُوجدت هذه العلاقات من قبل الغازي أمان الله خان والاتحاد السوفييتي المُشكل حديثا، ومن ثم تم الحفاظ على هذه العلاقات في أطوارها المختلفة وتم توطيدها أكثر. الفترة من عام 1919 إلى عام 2019 قرن شهد كون البلدين دولتين متكافئتين على نحو ما  كما شهد هذا القرن احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، مما جعل تجربة العلاقات الأفغانية الروسية تجربة عميقة.

عند حلول يوم 27/مايو/2019 استخدمت روسيا هذا اليوم لأغراض دبلوماسية بدلا عن المراسم التقليدية لذكرى مرور قرن من العلاقات بين البلدين. لروسيا علاقات دبلوماسية مع دول أخرى ولكل منها يوم خاص يُعرف بيوم بدء العلاقات، فهل يتم الاحتفال بتلك الأيام كما تم مع السابع والعشرين من مايو هذا العام؟ إلا أن هذا التطور تطور إيجابي. الاتحاد الروسي بعد فترة حكم داود خان كان يتدخل بشكل سريع ومباشر في الحروب الأهلية في أفغانستان، واليوم يسعى الجانب الروسي إلى إرساء السلام في أفغانستان وهو هدف مشترك لكلا البلدين.

التحول الحاصل في العلاقات الثنائية بين أفغانستان و روسيا تحول جديد، وذلك أن المحادثات الروسية مع طالبان كسرت حصار العلاقات القائمة من تنظيمات معينة، كما أحدثت تنوعا عرقيا وتنظيميا في العلاقات.

إذا كانت روسيا ترغب حقيقة باستقرار السلام في أفغانستان فمن الضروري أن تتم المفاوضات عبر محادثات جادة يحضرها طالبان والحكومة الأفغانية والجهات المؤثرة السياسية والاجتماعية الأفغانية. كون جميع الأطراف الأفغانية وروسيا تؤكد على خروج القوات الأجنبية فإن هذا من المصالح العليا للشعب الأفغاني، حيث إنه لا يوجد مواطن أفغاني يرغب في بقاء القوات الأجنبية في أفغانستان. الغرض المذكور هو أكبر أولويات الشعب وقد كافح الشعب في سبيل الحصول عليه دون كلل. تفيد التجربة الجهادية في أفغانستان أن الأحزاب الجهادية ركزت على الحرب ولذا ليس لديها الاستعاد والتجربة السياسية والاقتصادية والمجتمعية الكافية، مما جعلها تدخل النقاش من زاوية الحرب فقط. موضوع الحرب صار مُسيطرا عليه من قِبل عدة عوامل. على طالبان أن لا تُغفل تجربة الجهاديين السابقين في إرساء السلام. الوقت المناسب للسلام قد لا يتأتى دائما كما أنه لا توجد سلطة بين الحرب والسلام. التنظيمات الجهادية السابقة ترغب في حلول السلام على ما يطابق معاييرها إبان فترة حكمها، إلا أن تلك المعايير أوصلتهم في السابق إلى حالة يُرثى لها. تنظيم طالبان يلعب دورا مهما في الساحة الأفغانية، لذا على التنظيم أن يعي قيمة السلام.

على طالبان أن لا تكتفي بالاعتداد بآرائها فقط حيال عملية السلام. السلام الأفغاني قضية وطنية، وإغفال أي جماعة في أفغانستان بما فيها الجماعات محدودة العدد والنفوذ كفيل بإحداث أزمة في يوم من الأيام. في حال عدم التفاوض بين طالبان و الحكومة فإن الاقتصار على خروج القوات الأجنبية من البلد ليس كافيا لإرساء السلام. بالنسبة للقوات الأجنبية فإن خروجها أمر يسير حيث أنهم لم يخسروا الكثير في أفغانستان، إلا أن حربهم ستستمر وهم قادرون على تحمل مصاريفها الزهيدة في أفغانستان.

إذا كانت روسيا ترغب في لعب دور إيجابي في أفغانستان وبدء العلاقات الحسنة، عليها أن تثبت حسن نواياها في قضية الصلح، حيث أنها ستلعب دورا في إعادة تأهيل أفغانستان، لذا عليها أن تغلق صفحة الحرب التي لعبت دورا في إشعالها وأدخلت فيها مليون جنديا روسيا. على روسيا أن تعي أن السلام والأمن لن يحلا في أفغانستان دون التطور والاستقرار الاقتصادي، وإذا لم يحل هذا الاستقرار فلن تتوقف الحرب في أفغانستان.

من الضروري كذلك في ما يتعلق بالدعم الروسي لأفغانستان أن تضع الحكومة الأفغانية شروطها لقبول الدعم. كان على الحكومة الأفغانية أن تتابع الوعود الروسية التي أطلقوها في عام 1392 والمتضمنة إكمال ما لم يتم إكماله من المشاريع السابقة التي مولها الاتحاد الروسي، وهو ما يدل على عدم التنسيق والتناغم بين الولايات المتحدة وقوى المنطقة حيال إعادة تأهيل أفغانستان. والزمن سيكشف عما إذا كانت الحكومة الأفغانية ستقدر على أن تستفيد من تواجد القوات الأمريكية وحلف الناتو في اغتنام الدعم الروسي لأفغانستان والتغلب على التحديات الموجودة في هذا الصدد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *