الوقت المناسب لوقف إطلاق النار فی افغانستان (فی ضوء التجارب العالميه)

فضل محمود علي

ماجستير في الاقتصاد العام والحقوق والعلوم السياسية؛ وباحث مساعد بمركز الدراسات الاستراتيجية والإقليمية

12/يناير/2021

بالنظر في مفاوضات السلام الأفغاني المعقدة والتي يُؤمل منها التمهيد للسلام يتضح أن اتفاق الطرفين حول الحرب سيستغرق وقتا طويلاً. إن هذا الأمر يتطلب مفاوضات شاملة بين الحكومة الأفغانية وطالبان للتفاهم حول الأزمات السياسية الرئيسة وهيكل الحكومة التي ستستلم زمام الأمور بعد الحرب في البلد. في الأشهر الماضية التي انعقدت خلالها جلسات التفاوض بين وفد الحكومة الأفغانية ووفد طالبان لوحظ اشتداد الحرب وارتفاع معدل القتل في البلد وازدياد العنف أكثر مما مضى. مع بلوغ مفاوضات السلام الأفغانية الداخلية مرحلة هامة يتساءل الكثيرون عن موعد وقف إطلاق النار في أفغانستان. ولا شك أن الشعب الأفغاني يتوق كثيرا لوقف إطلاق النار، وذلك لأن عامة أفراد الشعب هم من يتكبدون الخسائر في الأرواح والأموال بشكل يومي مع استمرار الحرب. المُثل والقِيم الإنسانية تؤكد على أهمية حفظ حياة الإنسان والحد دون إزهاق روحه حتى الإمكان. ولكن بالنظر إلى الأحداث التاريخية ما هو الوقت المناسب لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب – واضعين في الحسبان حالة أفغانستان -؟ هل ينبغي أن يتم وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام أم بعدها؟ هل الواجب على الحكومة الأفغانية والمجتمع الدولي وطالبان هو المبادرة قبل كل شيء إلى وقف إطلاق النار لتُحفظ أرواح المواطنين؟ أم الأولى أن يتم التركيز على اتفاق سياسي يمهد الطريق نحو سلام دائم ومستقر؟ في هذا المقال سنأخذ جولة في التجارب المختلفة لوقف إطلاق النار مع تقييم نجاحها أو إخفاقها ومطابقة حالتها بالواقع الأفغاني. في هذا المقال تم تفحص الحروب الأهلية في عدد من دول العالم التي شهدت وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام، وخلالها وبعدها.

وقف إطلاق النار قبل التفاوض حول القضایا الأساسية

بالنسبة لوقف إطلاق النار في أفغانستان قبل مفاوضات السلام توجد ثلاث جوانب. الجانب الأول هو أن وقف إطلاق النار قبل انعقاد جلسات مفاوضات السلام عمل إنساني ينتج عنه حقن دماء الكثيرين سواء كانوا من طرفَي النزاع أم من عامة الشعب. إضافة إلى ذلك فإن وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام سيلعب دوراً هاما في تسهيل دعم ضحايا الحرب وإمدادهم بالمساعدات العاجلة.

وثانيا؛ سيساعد وقف إطلاق النار قبل المفاوضات في خلق جو من الثقة بين الطرفين المتنازعين. كما أن استمرار الحرب سيزيد من شعور المواطنين بالكراهية وسيقوي دوافع الانتقام مما سيزيد توهج نيران الحرب بدلا من إطفائها. إن وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام كفيل بإزالة الحجب التي حالت دون الثقة المتبادلة بين الأطراف، ويُعد ذلك عاملا أساسيا في تحسين العلاقات وإنهاء الحرب بين الطرفين.

الأمر الثالث هو أن التفاوض في ظل وقف إطلاق النار يتصف باليُسر، بخلاف ما إذا تم التفاوض في جو من الحرب حيث تطرأ حينها تغييرات في آراء كلا الطرفين مع وقوع الخسائر كما يسعى كل منهما في حصد أكبر قدر ممكن من المصالح. إن إيقافاً أولياً للحرب كفيل بإخماد نيرانها كما أنه على الأرجح سيزيد من سرعة المفاوضات وسيقلل مدتها. ولكن ماذا يمكن أن نتعلم من التاريخ حول وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام؟

في التاريخ المعاصر تُعد تجربة إيرلندا الشمالية الشاهد الوحيد الدال على نجاح وقف إطلاق النار قبل البدء في مفاوضات السلام حيث نتج عن ذلك اتفاق ثنائي وضع نهايةً للحرب الأهلية. لقد استمر الصراع في إيرلندا الشمالية مدة ثلاثة عقود (1969-1998) حيث كانت بغية الانفصاليين حينها عزل إيرلندا الشمالية عن إنجلترا وتصييرها دولةً مستقلة، متوسلين لذلك بالعنف.

من المجموعات الأكثر تأثيرا ضمن الجماعات الانفصالية الإيرلندية جيش إيرلندا المتحدة وحزب سن فين. لم تقبل الحكومة الإنجليزية بالدخول في مفاوضات السلام مع حزب سن فين حتى رضخ جيش إيرلندا المتحدة لوقف إطلاق النار. في شهر أغسطس/1997م قبل حزب سن فين وجيش إيرلندا المتحدة بمشروع وقف إطلاق النار وأعقبه سريعا بدء المرحلة الأولى من المفاوضات الشاملة والتي نتج عنها اتفاقية بلفاست المعروفة باسم (اتفاق الجمعة العظيمة) التي صدرت بموافقة كافة الأطراف.

في القضايا المشابهة الأخرى لم تقدر أطروحات وقف إطلاق النار المبكر أن تهيئ الأرضية المناسبة لمفاوضات السلام وأن تسرّع من عملية إيجاد حلول نهائية ومقبولة تحسم الصراع بين الأطراف المتنازعة.

الحرب الأهلية الأولى في ليبيريا (1996-1989)م من ضمن التجارب التي أظهرت فشل وقف إطلاق النار قبل المفاوضات بل أدى وقف إطلاق النار إلى استقطاب الجبهات القتالية لمزيد من الجنود وإعادة تسليحهم حتى يستأنفوا حروبهم الدامية. بدأت حرب ليبيريا في ديسمبر عام 1989م  عندما هجمت جماعات مرتبطة بالمعارضة المسلحة والمسماة بجبهة ليبيريا الوطنية NPEL بقيادة تشارلز تيلور بدعم من الدولة المجاورة ساحل العاج،  وسرعان ما تبدل هذا العنف إلى وابل من الخسائر التي تكبدها عامة الشعب.

وقد تدخل الاتحاد الاقتصادي لدول غرب أفريقيا في حرب عام 1990م بليبيريا وكانت الأولوية لدى الاتحاد هي إخضاع طرفي النزاع لمشروع وقف إطلاق النار. وقد تسبب تدخل الاتحاد في تنفيذ وقف إطلاق النار في نوفمبر/1990م. وكان من المتوقع أن يكون وقف إطلاق النار خطوة إيجابية في سبيل إنهاء الحرب بشكل كامل وإرساء السلام. إلا أن العنف عاد بشدة مع هجوم دامٍ حدث في أكتوبر/1992م – ويُسمى بهجمة الأخطبوط – حيث هجمت قوات جبهة ليبيريا الوطنية على مونروفيا واستمرت الحرب ونشبت صراعات متفرقة على إثر هذه الحرب في شتى أنحاء البلد.

بعد استئناف الحرب مرة أخرى، منحت هذه الوقفات بين الحروب فرصة للثوار بأن يُعدوا أنفسهم للمزيد من الحروب عوضا عن السلام، وأخفقت جميع مبادرات وقف إطلاق النار، ولم ينتج عن أحد منها ما كان يُؤمّل فيها كما لم يُساعد أي منها في تهيئة الأجواء لمفاوضات السلام والاتفاق المشترك حول السلام.

ليبيرا من جملة الأمثلة التي طُبق فيها مشروع وقف إطلاق النار المبكر إلا أن المبادرات باءت بالفشل. كما أن مشاريع وقف إطلاق النار المذكورة تسببت في ازدياد لهيب الحرب وتطويل مدتها وخسائر كبيرة في الأرواح والأموال. في الدول الأخرى مثل دارفور (2003 – 2004 ) والبوسنة (1994) وسريلانكا (1995) جُعل وقف إطلاق النار شرطا لبدء المفاوضات وخلق جو من الثقة وبعض الغايات الإنسانية الأخرى.

في كل الحالات المذكورة استغلت الأطراف الضالعة في الحروب فترةَ وقف إطلاق النار وتوسلت بالعنف للوصول إلى أهدافها الماكرة وذلك لعلمهم بعدم قدرتهم على تحقيق أهدافهم في تلك المرحلة من الصراع عبر التفاوض والحوار.

ماذا نتعلم من هذه الأحداث؟ الشواهد التاريخية تفيد أن وقف إطلاق النار لن يكون مُثمرا إذا تم قبل حصول اتفاق بين الجهات المتفاوضة حول القضايا السياسية الرئيسة. لعل مخالفي وقف إطلاق النار المبكر يستدلون بأنه لا يوجد ما يضمن أن وقف إطلاق النار المبكر سيقلل عدد ضحايا العنف ما لم تُطرح القضايا التي يدور حلوها الصراع بين الطرفين.

بما أن هذا النوع من وقف إطلاق النار لم ينبنِ على اتفاق سياسي بين طالبان والحكومة الأفغانية فإنه سيكون مشروعاً هشاً معرضا للانتهاك. وإذا انتقض وقف إطلاق النار فإن الضحايا ستزيد عما إذا سُمح في البداية للفرق المتفاوضة أن تصل إلى اتفاق سياسي يحسم الصراع بينها. بناء على ذلك ما الذي يُستفاد من نجاح إيرلندا الشمالية في وقف إطلاق النار المبكر؟

لعل الأمر الذي يصلح لتفسير ذلك هو أن القوات الإنجليزية والقوات الانفصالية الإيرلندية كانت قد وصلت إلى طريق مسدود وحالة صعبة جعلت كلا الطرفين يُدرك أن أفضل طريق للحل ه التفاوض. القوات الانفصالية أدركت أنها لن تقدر على الوصول إلى أهدافها عبر الطرق العسكرية والسياسية كما أن الحكومة باتت تدرك أن القوات الانفصالية غير قابلة للهزيمة مما يجعلها حجر عثرة أمامها كما أن هذا الأمر في منظورها بات غير قابل للكسب أو للخسارة. ومن ثم وصل كلا الطرفين إلى هذا الطريق المسدود مما هيأ الأجواء لوقف إطلاق النار.

الخطر المتوقع الآخر من وقف إطلاق النار في أفغانستان قبل الاتفاق السياسي حول مثارات النزاع الرئيسة هو ازدياد شدة الحرب واستمرارها وبقاء الحالة على نحو لا يوجد فيها منتصر أو خاسر مع ضياع فرص حل النزاع عبر التفاوض. قضية قبرص شاهد تاريخي يوضح لنا هذا الأمر.

في عام 1974م تم تعليق الحرب بين تركيا وقبرص اليونان عبر وقف لإطلاق النار تم بوساطة هيئة الأمم المتحدة. مع أن الجهات الضالعة في الحرب راعت هذا الأمر في البداية إلا أن الفرق المتفاوضة لم ترض بنتائج التفاوض؛ وبهذا النحو ولّد وقف إطلاق النار حالة من التوتر وفقدت الفرق المتفاوضة دوافعها التي تدفعها للحلول السلمية وبقيت الأوضاع على ما ما كانت عليه سابقا.

في هذه القائمة من الممكن إضافة الأحداث الأخرى التي شهدت اشتداد الحرب أو ثباتها مثل قضية قره باغ بين آذربيجان وأرمينيا، وقضية أبخازيا، وقضية ترانسدنيستر بدولة مولدوفا، وقضية أوسيتيا الجنوبية بدولة جورجيا، والصراع بين كشمير والهند؛ وكل هذه الأحداث واجهت مصيرا مشابها لمصير قبرص.

وقف إطلاق النار خلال فترة التفاوض

إن وقف إطلاق النار بعد اتفاقية سياسية يرضاها الطرفان المتنازعان أمر أكيد وضروري. ولكن هل من الممكن أن يتم وقف إطلاق النار خلال فترة التفاوض؟ وفي أي مرحلة من مراحل التفاوض سيُؤتي وقف إطلاق النار ثماره؟ إن الشواهد التاريخية تفيد أن أنجع وقفٍ لإطلاق النار يكون بعد اتفاق الطرفين حول القضايا السياسية الرئيسة المثيرة للصراع والمحركة للحرب.

ولكن هذا لا يعني ضرورة أن تتفق الحكومة الأفغانية وحركة طالبان حول جميع القضايا الخلافية؛ وإنما يكفي لهذا الأمر اتفاقٌ حول آلية عامة تدفعهم نحو وضع حدٍ نهائي للحرب. إن هذا الاتفاق لا ينبغي أن يصدر فقط بسبب طول مدة عملية السلام؛ وإنما يُعد هذا الاتفاق ضروريا ليكون مؤشرا على نجاح المُنتَج الأخير الحاصل من التفاوض ويكون دالا على حتمية انتهاء الحرب الحالية التي استمرت لعقود.

إن الوصول إلى إطار تفاهمي عام بين طرفي النزاع يُعين كليهما على معرفة أن حسم الخلاف يكون ذا فائدة أكبر إذا تم عبر التفاوض لا عبر العنف، ومن ثم يمكن ترغيب كلا الطرفين في السعي نحو الوصول إلى تفاهم مشترك يُزيل مُثيرات النزاع. يُضاف إلى ذلك أن وقف إطلاق النار سيُتيح للحكومة الأفغانية وحركة طالبان أن تدققا في تفاصيل الاتفاقية كما أنه سيقوي التنسيق المتبادل بين الحكومة الأفغانية وطالبان والمجتمع الدولي للوصول إلى حلول ذات تأثيرٍ طويل المدى وتكون محل اتفاق.

الشواهد التاريخية تدل على أن وقف إطلاق النار بعد الاتفاق حول القضايا السياسية الرئيسة أكثر نجاحا من حالة وقف إطلاق النار بصورة مبكرة. لقد شهدت حرب البوسنة (1996-1992)م عدة محاولات لوقف إطلاق النار بدعم من هيئة الأمم المتحدة. إلا أن تلك المحاولات لم تكن مثمرة كما أن تلك الفترات استُغلت من قبل الجهات المتصارعة في نقل السلاح والتجنيد مما نتج عنه اشتداد الحرب. خلال حرب البوسنة اجتمع وزراء خارجية دولة البوسنة وكرواتيا ويغسلافيا ( الدول ذات العرق البوسني الصربي) لأول مرة في جنيف ثم في نيويورك في شهر سبتمبر/1995م.

اتفق المذكورون ضمن عدة قضايا على حل يمهد لإرساء السلام في البوسنة، وذلك بأن تحافظ البوسنة على حدودها وأراضيها وأن يكون داخل البلد جزءان: جمهورية الصرب بنسبة 49% واتحاد الهرسك والبوسنة الفدرالية بنسبة 51%، وبعد أسبوعٍ تم توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار لمدة شهرين، ثم في 1/نوفمبر/1995م بدأت مفاوضات السلام الشاملة في مدينة ديتون بولاية أوهايو الأمريكية. وقد نتج عن مفاوضات جنيف ونيويورك توقيع اتفاقية السلام في تاريخ 14/ديسمبر/1995م.

السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو؛ لماذا نجح وقف إطلاق النار الأخير في حرب البوسنة ونتج عنه اتفاق شامل في حين أن المحاولات الأخرى لوقف إطلاق النار قد أخفقت؟ الجواب باختصار هو أن الأطراف المتنازعة اتفقت بدايةً على إطار عام ثم دخلت حالة وقفٍ لإطلاق النار. هذا الإطار العام وُجد أولا في جنيف ثم في نيويورك ومهّد الطريق نحو الاتفاق النهائي والتفاوض الشامل. والأهم هنا أنه وُجد تفاهم عام بين الجهات المتنازعة وباتت تلك الجهات تُدرك أن النزاع يمكن حله عبر التفاوض؛ ولذا نجح واستمر وقف إطلاق النار.

ثورة الطوارق في دولة النيجر (1990 – 1995م) أيضا شهدت عدة محاولات لوقف إطلاق النار إلا أن محاولة واحدة هي التي نجحت وتسببت في حصول اتفاقية السلام. في عام 1991م ثارت جبهة تحرير آير وأزواغ على حكومة النيجر وطالبت بنظام فدرالي وخدمات إسكان وتحسين لوضعها الاقتصادي. خلال سنوات الحرب تمت المفاوضات مرات عديدة نتجت عنها عدة محاولات غير مثمرة لوقف إطلاق النار، وكان السبب في إخفاقها هو الدخول في حالة وقف إطلاق النار دون اتفاق حول القضايا السياسية الرئيسة المثيرة للنزاع.

في عام 1994م تم بدء فترة جديدة من التفاوض بين حكومة النيجر وحركة تنسيق قوات المعارضة التي تُمثل الطوارق الثوار. في هذه المرة قبلت حكومة النيجر بمنح الحكم المستقل لمناطق الطوارق مما كان يُعدّ المطلب الرئيس للثوار، كما تمت الموافقة على إدارة تلك المناطق بتعيين ولاة ومجالس شورى انتخابية، ونتج عن ذلك وقف لإطلاق النار تبعته سلسلة من المفاوضات الشاملة. بخلاف المحاولات السابقة التي شهدت وقف إطلاق النار؛ استطاع الطرفان المتنازعان في الفترة الأخيرة لوقف إطلاق النار أن يتفاهما حول القضايا السياسية الرئيسة. ونتجت عن وقف إطلاق النار مفاوضات شاملة مستمرة، كما اتفق الطرفان خلال تلك الفترة على تطبيق نظام انتخابي لمجالس الشورى في المناطق التي يقطنها الطوارق، مع إرساء للأمن وإعادة تأهيل للمنطقة واستعادة المهاجرين. ونتيجة لذلك تم توقيع اتفاقية سلام جامعة بين حكومة النيجر والثوار (الذين نابت عنهم حركتا تنسيق القوى المعارضة “CRA” وحركة FLAA ).

إن محاولات وقف إطلاق النار في النيجر قبل حصول اتفاق سياسي بين الطرفين حول القضايا الرئيسة باءت بالفشل؛ مثل تلك التي حصلت في البوسنة. ومتى ما تم الاتفاق بين الأطراف المتنازعة حول القضايا الرئيسة المثيرة للنزاع فإن إيقافا قصيرا لإطلاق النار كفيل بإخماد نيران الحرب وإيصال الأطراف المتنازعة إلى حلول نهائية لصراعاتها.

مع أن الشواهد التاريخية تدل على أن عملية الوصول إلى إطار تفاهمي عام لحل القضايا الرئيسة المثيرة للصراع تسبب تأخير وقف إطلاق النار إلا أن هذا ليس هو العامل الوحيد في القضية، وإنما توجد عوامل أخرى تعمل بانفراد أو بتركيب مع بعضها وتؤثر في مصير وقف إطلاق النار؛ مثل وجود طرف قوي يضمن وقف إطلاق النار، أو حدوث حالات لا يكون فيها أحد الطرفين مع الحرب خاسراً أو منتصراً.

قضية موزمبيق قدمت نموذجا لسيناريو لم يشهد وقف إطلاق النار إلا بعد وصول الطرفين المتنازعين إلى اتفاقية سلام شاملة. كانت الحكومة في البداية تؤكد على وقف إطلاق النار قبل بحث القضايا المثيرة للنزاع. وفي الجانب المقابل كانت المعارضة المسلحة ممتنعة عن الرضوخ لوقف إطلاق النار قبل الوصول إلى اتفاقية سلام شاملة.

وفي النتيجة قبلت الحكومة بمطلب الثوار خوفا من وصول الطرفين إلى طريق مسدود وتزامن التفاوض مع استمرار الحرب. في الحقيقة كان استمرار الحرب ضروريا جدا لنجاح المفاوضات، ومع ازدياد شدة الحرب كانت الأطراف تسعى للحصول على امتيازات أكثر عبر المفاوضات. وقد تسبب العنف المتزايد في دفع الطرفين إلى الاستعداد للتفاهم وتم الوصول إلى اتفاقية شاملة.

لا نستطيع الجزم حين يُطرح التساؤل حول الوقت المناسب لوقف إطلاق النار في أفغانستان. إلا أنه يتوجب علينا أن نضع التجارب التاريخية في الحسبان. إن الأمر الذي يمكن أن نتفق حوله جميعا هو أن تعيين الوقت المناسب لوقف إطلاق النار في أفغانستان ليس قرارا سهلا؛ وذلك لأن النتيجة الأولية لوقف إطلاق النار قبل الوصول إلى تفاهم مشترك هو حقن الدماء والحفاظ على الأرواح وإزالة العنف بشكل مؤقت؛ إلا أن ذلك يصحبه إمكانية رجوع البلاد إلى حالة من الحرب والدمار وينتج عنها خسائر كبيرة. والقرار الثاني هو القبول بالتضحية الحالية لأجل الوصول إلى حلول نهائية. إن وقف إطلاق النار قبل الاتفاق السياسي سيولّد خطرا آخر مشابها لما حصل في قبرص حيث تم إيقاف الحرب دون اتفاق سياسي مما جعل الاتفاق السياسي الحقيقي أمراً متخيلا وغير واقعي.

إن التاريخ يُثبت أن وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام لن يُنتج سوى تهيئة الأجواء لعودة الحرب بشدة أكثر وتسليحٍ أقوى. يتضح من الحالة الوحيدة لنجاح وقف إطلاق النار قبل المفاوضات والتي حصلت في إيرلندا الشمالية أن هذا المسار إنما ينجح في حال توفر عوامل مساعدة أخرى. إن المثال المذكور يدل على أن وقف إطلاق النار قبل مفاوضات السلام إنما يكون ذا ثمرة إذا حصل في حالةٍ لا يوجد فيها غالب ومغلوبٌ مع استمرار الحرب، ويكون التفاوض هو الطريق المتاح للوصول إلى الحلول، دون التوسل بالعنف.

الأحداث المشابهة الأخرى تفيد أن الضروري هو التركيز أولا على الاتفاق حول المسائل السياسية الرئيسة كما تفيد أن الوقف الفوري لإطلاق النار ليس لازماً. لا شك أن الشروع في مفاوضات السلام لحل أزمة أفغانستان قبل وقف إطلاق النار يُعد قرارا صعبا. إن القيم الأخلاقية تؤكد بوضوح أن حياة كل فرد مهمة ولا ينبغي تعريضها للخطر. ومع ذلك؛ ينبغي مقارنة الخسائر المذكورة بالدمار والخسائرِ الناجمة عن استمرار الحرب. التجارب تُظهر أن وقف إطلاق النار بشكل مؤقت يحقن الدماء ويوقف الدمار لمدة وجيزة إلا أنه يزيد بعد ذلك من شدة الحرب ويُطيل مدتها ويشكل حجر عثرة في طريق الوصول إلى اتفاق حقيقي (كما حصل في البوسنة ودولة ليبيريا). إن وقف إطلاق النار المبكر يمنح فرصة للقوى المتنازعة لتنظم قواتها وعتادها. كما أن وقف إطلاق النار قبل حصول اتفاق سياسي قد يزيد في شدة الحرب ويقلل فرص نجاح المفاوضات.

إن التوصية الموجهة للحكومة الأفغانية وطالبان والمجتمع الدولي هي إيقاف الحرب خلال فترة المفاوضات الأفغانية الداخلية. باستعراض الأحداث التاريخية يتضح أن ما يُناسب أفغانستان هو وقف إطلاق النار عقب حصول اتفاق شامل بين الفرق المتفاوضة حول القضايا السياسية الهامة مثل كيفية هيكل الحكومة الجديدة، وتداول السلطة وتقاسمها، وغير ذلك من القضايا الرئيسة.

سيكون من الأسهل على الحكومة الأفغانية وطالبان أن يصلا أولا إلى تفاهم عام لحل النزاع ثم يتم إيقاف الحرب وتتم بعد ذلك المفاوضات النهائية. وعندما يصل الطرفان إلى تفاهم مشترك حول إطار عام يحل أزمة البلد؛ حينها سيكون التفاوض حول الاتفاقية النهائية أمراً سهلا. إن معرفة هذا الأمر سيُرغّب كلا الطرفين في إلقاء السلاح جانبا خلال فترة المفاوضات؛ كما أن هذا الأمر سيُمهد بدوره الأرضية للوصول إلى اتفاقية نهائية.

المنابع:

Archick, K. (2005). Northern Ireland: The Peace Process. Congressional Research Service Report for Congress.

Cook, N. (2003). Liberia: 1989-1997 Civil War, Post War Developments, and U.S. Relations. CRS Report for Congress.

Lloyed, R. (1995). Mozambique: The Terror of War, the Tensions of Peace. Current Histroy, 153.

Luttwak, E. (2004). The Curse of Inconclusive Intervention. In C. A. Crocker, Taming Interactable Conflicts: Medation in the hardest cases. Washington, DC: US Institute of Peace Press.

Mahieu, S. (2007). When Should Mediators Interrupt a Civil War? Th e Best Timing for a Ceasefire. International Negotiation, 207-228. Retrieved December 29, 2020, from https://d1wqtxts1xzle7.cloudfront.net/32138992/Mahieu_INER_12-2_1_.pdf?1382489642=&response-content-disposition=inline%3B+filename%3DWhen_Should_Mediators_Interrupt_a_Civil.pdf&Expires=1610303353&Signature=YfoXk5d3Jo-XdBwcjKIuKC-Kq6m7l~DD0w6XjBjkgMKO5Sj8k

Masabaha, I. (1995). Negotiating an End to Mozambique’s Murderous Rebellion. In W. I. Zartman, Elucive Peace: Negotiating an End to Civil Wars. Washington: The Brookings Institution.

Sesay, M. A. (1996). Bringing Peace to Liberia. Accord. Retrieved December 30, 2020, from https://rc-services-assets.s3.eu-west-1.amazonaws.com/s3fs-public/The_Liberian_Peace_Process_Accord_Issue_1.pdf

Skoog, O. (2003). Experiences from the Colombian Peace Process. Internal Armed Conflict, Peace Processes and Peace Negotiations – Is there a way forward in. Upsala. Retrieved January 10, 2021, from https://www.yumpu.com/en/document/read/39809467/experiences-from-the-colombian-peace-process-olof-

The Diplomat. (2021). Latest Phase of Intra-Afghan Peace Talks Off to Slow Start. Retrieved January 12, 2021, from https://thediplomat.com/2021/01/latest-phase-of-intra-afghan-peace-talks-off-to-slow-start/

Touval, S. (1995, October). Ethical Dilemmas in International Negotiations. Negotiation Journal, 333-337.

Zartman, I., & Berman, M. (1982). The Practical Negotiator. New Haven: Yale University Press.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *