ملف السلام والدستور الأفغاني
إن الدستور يُمثل الوثيقة الوطنية التي على أساسها يتم تعيين النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي – وغيرها من الأنظمة – في أي بلد. حين تحصل دولة على الاستقلال فإن أول خطوة تقوم بها هي البدء في صياغة الدستور وذلك لعدم إمكانية تشكيل أي نظام سياسي دون وجود الدستور. على سبيل المثال، حين استقلت الولايات المتحدة الأمريكية من بريطانيا عام 1776م، واستقلت باكستان من القوات البريطانية – الهندية عام 1947م، واستقلت بنغلاديش من باكستان عام 1971م، واستقلت يغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ومثيلاتها من الدول بعد الحرب العالمية الأولى والثانية؛ كان أول ما قامت به هذه الدول هو صياغة دستور ليُشكل على أساسه نظام سياسي في البلد. وفي عبارة مختصرة يمكن القول بأن النظام السياسي في بلد ما لن يكون ذا معنى إذا عُدم الدستور.
وفي أفغانستان عندما سقطت حكومة طالبان تم عقد مؤتمر بُن لتأسيس النظام السياسي في أفغانستان، وفي هذا المؤتمر تم الاتفاق على مرور البلد بثلاث مراحل سياسية (الفترة المؤقتة، والفترة الانتقالية، والحكومة المُنتخبة). ولكن؛ لمَ تم تعيين هذه المراحل الثلاث للوصول إلى إرساء دعائم النظام السياسي؟ لمَ لم تشرع البلد في مرحلة الحكومة المُنتخبة مباشرة؟ وجوابا على هذا نقول: يرجع السبب إلى أن البلد في تلك الفترة كان فاقدا لأي شكل من أشكال جريان القوانين النافذة؛ ومن ثم كانت مهمة الفترة المؤقتة والفترة الانتقالية هي إعداد مسودة الدستور التي يتم اعتمادها في مجلس الشورى الشعبي ومن ثم يتم تسليم أزمة الحكم لحكومة منتخبة في ضوء الدستور المعتمد.
الحكومة المؤقتة وعلاقتها بالدستور
منذ بدء مفاوضات السلام مع تنظيم طالبان سُمع بين الفينة والأخرى الكلامُ حول قضية الحكومة المؤقتة؛ وسبب ذلك أن الاتفاقية الموقعة بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية تقضي بأن يكون تنظيم طالبان شريكا في تقاسم السلطة في النظام السياسي الجديد في أفغانستان؛ وإذا كان ولوج تنظيم طالبان في النظام السياسي الأفغاني أمرا محتما فلا شك أن التنظيم حينها سيُطالب بحزمة من الشروط وحسب رأيي ستتضمن تلك الشروط مطالبات بتعديل الدستور.
إن عملية تعديل الدستور، وتعيين مواطن الوفاق والخلاف وإعداد مسودة جديدة للدستور وصياغة تعريف لنمط الحكومة المستقبلية عملية طويلة قد تستغرق سنوات، ولأجل أن تتوقف الحرب ويتم وقف إطلاق النار في البلد هناك حاجة للاتفاق حول القضايا الرئيسة والكلية وعلى إثر هذا الاتفاق تتسلمُ الإدارةَ حكومةٌ مؤقتة يستمر عملها حتى يتم اعتماد تعديل الدستور. لذا فإن علاقة الحكومة المؤقتة بالدستور تنبع من أن النظام السياسي لا يمكن تأسيسه دون دستور، كما أن تعديل الدستور يتطلب وقتا حتى يتم التدقيق فيه، فإذا انتظرنا تعديل الدستور فإن الحرب ستحصد المزيد من الأرواح، أما إذا تم وقف إطلاق النار فإن الحل يكمن في المصير إلى الحكومة المؤقتة، وقد مررنا بتجربة الحكومة المؤقتة التي كانت تهدف إلى صياغة الدستور في أفغانستان عام 2002م.
قضية تعديل الدستور أو إلغائه
إن تعديل الدستور يعني إحداث تغييرات فيه. ويمكن تعديل بنود الدستور الأفغاني في حال وجود نقص فيه أو تعارض بعض بنوده مع الإسلام أو مع بعضها، أو أن تكون حاجةٌ لإضافة عناصر إلى هيكل الحكم. أما إلغاء الدستور فيرتبط في الغالب بمسار تغيير النظام، أي حين تحصل ثورة ويتشكل حكم سياسي جديد يعُارض الدستور القائم معارضة تامة وحينها يُلغى الدستور ويُستعاض عنه بدستور جديد.
والآن، هل يحتاج الدستور الأفغاني في ظل مفاوضات السلام الحالية إلى التعديل أم الإلغاء؟ إن الدستور الأفغاني يُعد من جملة إنجازات الحكومة الأفغانية خلال العقدين الماضيين، كما أنه من حيث كفاءة القوانين وشمولها يُعتبر من أجود الدساتير على مستوى المنطقة. لا شك أن به إشكاليات ولكن هذه الإشكاليات لا تصل إلى حد إلغائه بالكامل واستبداله بدستور آخر؛ وإنما الصواب هو تعديل ما في الدستور من أخطاء حسب ما يراه خبراء القانون؛ مع تعديل البنود التي يُطالب بتعديلها تنظيم طالبان، وذلك لأن الحكومة الأفغانية هي طرف في مفاوضات السلام ولن تكون مستعدة أبداً لإلغاء الدستور، وبالتالي فإن الحل هو إزالة المواطن المشكلة من الدستور نفسه وإحداث التعديلات فيه حسب رغبة تنظيم طالبان حتى يصبح الدستور على هيئة مقبولة لدى الطرفين.
ما هي الإشكالات في الدستور الحالي؟
إن إشكالات الدستور الأفغاني تُدرس من جهتين. الجانب الأول يتضمن بنود الدستور التي يراها خبراء القانون بنوداً غير سليمة وتحتاج إلى التعديل أو التغيير، والجانب الثاني يتضمن النقاط التي يُطالب بتعديلها تنظيم طالبان. في الوقت الحاضر يُمثل الجانب الثاني الأهمية الكبرى وذلك لأن مصير مفاوضات السلام منوط به.
إن إشكالات الدستور الأفغاني والنقاط القاصرة فيه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول منها يتضمن بنودا لا تتفق مع الشريعة الإسلامية، والقسم الثاني يتضمن أخطاء قانونية والقسم الثالث يحتوي على أخطاء إملائية وإنشائية. في هذا المقال الموجز لن يتيسر لنا ذكر جميع هذه المواضع المشكلة إلا أننا سنشير إلى البعض منها. من المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية في الدستور المادة الرابعة والسادسة والسابعة والعاشرة ( وضمن هذه المواد الأربعة يُلاحظ أن كلا من المادة الرابعة والسابعة تُعارض الشريعة ظاهريا بسبب عدم وجود تعريف واضح للمراد، إلا أن هدف واضع الدستور منهما قابل للتوجيه، على سبيل المثال ذُكر في المادة الرابعة حكمُ الشعب وهو مصطلح انتقده العلماء حيث قالوا لا حاكمية إلا لله؛ إلا أن التدقيق في كافة مواد الدستور يؤدي بالقارئ إلى ملاحظة أن المراد لم يكن أبداً منح حكم الله تعالى للشعب كما لم يكن مراد المقنن من لفظ (حكم الشعب) تلك الدرجة العليا من الحكم، وإنما المراد من هذا المصطلح الجانب التنفيذي الذي يحول دون الاستبداد ويقنن انتخاب السلطات بشكل يُتيح للشعب أن يختار بصورة مباشرة أو غير مباشرة القائمين على شؤون الحكم والنائبين عن الشعب.
المادة الثانية التي ينتقدها العلماء هي المادة السابعة المتعلقة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث توجد في الإعلان بعض البنود المخالفة للشريعة الإسلامية، وقد تم قبول هذه الوثيقة في الدستور الأفغاني بصورة مطلقة؛ وفي هذا الصدد نقول: إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يُشكل جزءا من الحقوق العُرفية الدولية، وهو مجرد إعلان وليس منطويا على أي إلزام قانوني، وإنما هو وثيقة تدعو جميع الدول – من باب احترام القيم الأخلاقية – إلى تنفيذ موادها، وإذا تمت مخالفتها فلا توجد أي مؤسسة دولية تُرغم الدول على تنفيذها. إضافة إلى ذلك فإن مواد هذه الوثيقة إنما تُنفذ بعد ذكر تفاصيلها في القوانين الداخلية في كل دولة، والمواد المخالفة للشريعة بهذه الوثيقة لم يُعترف بها في الدستور الأفغاني، من ذلك على سبيل المثال: يُبيح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تغيير الديانة، والمدونات القانونية الأفغانية والمحاكم لا تعترف بهذا الحق لمواطنيها، كما أن الوثيقة منحت حق الطلاق للمرأة إلا أن القانون المدني والمحاكم الأفغانية لا تعترف بهذا الحق. يُقترح هنا أن يتم تعديل صياغة الدستور الأفغاني فيما يتعلق بهذا الصدد حتى تزول هذه الشُّبه والانتقادات. أما المادة السادسة التي تعد تحقيق الديمقراطية وظيفة الدولة والمادة العاشرة التي تقبل بنظام السوق الحرة فمادتان مخالفتان للشريعة الإسلامية وينبغي تعديلهما وذلك لعدم إمكان تقديم أي توجيه لهما من الناحية القانونية).
أما المواد التي بها أخطاء قانونية فمنها المادة الثانية والعشرين، والخامسة والعشرين، والثانية والستين، والثالثة والستين، والسابعة والستين، والتاسعة والستين، والثانية والسبعين، والتاسعة والسبعين، والعاشرة بعد المائة، والثالثة والأربعين بعد المائة. والمواد التي تتضمن أخطاء إملائية وإنشائية فيربو عددها عن المائة(۱).
النوع الثاني من إشكالات الدستور يتضمن المواد التي لا يقبل بها تنظيم طالبان. لا يُعلم على وجه الدقة كمّ المواد التي يُخالفها تنظيم طالبان، إلا أن من الممكن تخمين بعض النقاط على النحو التالي:
- عدم القبول بالنظام السياسي الجمهوري؛
- قضية حكم الشعب مكان حكم الله، وقضية الاعتراف بالوثائق الدولية بشكل عام؛
- الحساسية تجاه فصل الحقوق الأساسية وواجبات المواطنين بالدستور، على سبيل المثال: قضية تعادل الجنسين في المادة رقم 22، وحق المرأة بالترشح للرئاسة في المادة رقم 23، المادة المتعلقة بحرية التعبير، وغيرها؛
- في الفصل الخامس تم تعريف مجلس الشورى – مجلس الشعب – وقُسّم إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ. قد يكون هذا النمط من مجلس الشورى غير مقبول لدى تنظيم طالبان ويكون لديهم تعريفهم الخاص لملجلس الشورى ونمط هيكلته؛
- النظام الاقتصادي الذي تم التعريف به في المادة العاشرة من الدستور، ذلك لأن تنظيم طالبان طالما تحدث عن نظام اقتصادي إسلامي منضوٍ تحت مظلة حكومة إسلامية؛
- من الممكن كذلك أن يُطالب التنظيم ببعض التعديلات في النظام القضائي الحالي.
ما ذكرناه يمثل طائفة من المواد التي يمكن تخمين موقف تنظيم طالبان حيالها؛ إلا أن التنظيم لم يُبدِ تصريحات رسمية حولها.
وختاما ينبغي القول بأن دستور أفغانستان – الصادر عام 2002م – رغم احتوائه على الإشكالات التي سبق ذكرها يتضمن مزايا لا تتمع بها دساتير دول المنطقة، من ذلك على سبيل المثال: ما تضمنه الدستور من منع الاستبداد بالحكم بصورة واضحة، وتوضيح الحقوق الأساسية والواجبت للمواطنين بشكل موعب، والتعريف بالنظم السياسية والإدارية في البلد بطريقة منضبطة، والأهم من ذلك كله ترجيح معظم مواد الدستور لأحكام الشريعة الإسلامية واحترامها لها، وفيما يتعلق بالنقطة الأخيرة يمكن مراجعة المادة الأولى والثانية والثالثة والحادية عشرة والتاسعة عشرة والعشرين والثانية والستين والثالثة والستين والرابعة والسبعين والتاسعة عشرة بعد المائة، والثلاثين بعد المائة، والتاسعة والأربعين بعد المائة، وغيرها من المواد في دستور بلدنا حيث نجد فيها رجحان الأحكام الإسلامية على غيرها.
خاتمة
نخطّ هذا التحليل في وقت تجري فيه مفاوضات السلام بين وفد الحكومة الأفغانية ووفد تنظيم طالبان في الدوحة. معظم الأطراف المعنية بالمفاوضات قلقة من نشوب اختلافات في مواضيع التفاوض والتي يُشكل الحديث حول الدستور جزءا كبيراً منها؛ إلا أن ما ذكرناه في هذا المقال يدل على أن البحث في الدستور خلال مفاوضات السلام ليس بذاك التعقيد، وإنما يمكن بسهولة أن يتفق الطرفان حول مواد الدستور وذلك لأن مواطن الخلاف بين الطرفين حيال الدستور محدودة للغاية. تجدر الإشارة إلى ضرورة مراعاة الدقة الكاملة حين يُعدّل الدستور حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة التي ستُحوج القانونيين لإعادة تعديله أو تثير انتقادات خبراء القانون. الأولوية في الوقت الراهن تكمن في الاتفاق على هيكل حكومة تضم كافة الأطراف المعنية ويستمر عمل هذه الحكومة إلى إكمال مسودة الدستور وبعد الانتهاء من إعداد الدستور تدخل البلد مرحلة السلام الشعبي الشامل التي تتبعها مراحل استقرار البلد. ونذكر فيما يلي مقترحات يُرجى أن تكون مؤثرة في إيجاد اتفاق بين الطرفين المتفاوضين:
1- أن يُصرح بحكم الله تعالى فيما يتعلق بالتشريع، ويُصرح بالحق التنفيذي للشعب في التمثيل السياسي وشؤون الحكم؛
2- أن يتم منح السلطة لمجلس الشورى الوطني المُنتخب فيما يتعلق بالمصالح المرسلة والأمور الاجتهادية؛
3- أن تكون الانتخابات المستقلة النزيهة والعادلة السبيلَ الوحيد للوصول إلى سدة الحكم أو تغيير القيادة؛
4- أن تُصان الحقوق الأساسية والحريات للمواطنين في ضوء الشريعة الإسلامية والقوانين الداخلية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان؛
5- المنع من السلطة المركزية وتقسيم السلطات على نحو يحول دون نشوء الاستبداد بالحكم.
للحصول على المزيد من المعلومات، بالإمكان الاطلاع على المصادر التالية:
- د اساسي قانون تحليل او شننه، لومړی ټوک، څېړندوی عبدالصبور مبارز، سلام خپرندويه ټولنه، جلال اباد.
- نقد و تحليل قانون اساسی، قانونپوه محمد اشرف رسولی، جلد اول و دوم.
- تحليل و بررسی قانون اساسی سال ۱۳۸۲ افغانستان، سرمحقق محمد موسی رحيمی، اکادمی علوم افغانستان.