مواجهة الصين والولايات المتحدة الأمريكية في تايوان ومستقبل النظام العالمي

تحرير: مركز الدراسات الاستراتیجية والإقلیمیة

ملاحظة: انقر هنا للحصول على ملف PDF لهذا التحليل.
___________________________________________________________________

ستقرؤون في هذه النشرة:

مواجهة الصين والولايات المتحدة الأمريكية في تايوان ومستقبل النظام العالمي
• مقدمة
• جذور الصراع الصيني – التايواني
• هل ستبقى الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب تايوان؟
• هل سينهار النظام العالمي في حال هجوم الصين على تايوان؟
• أفغانستان؛ ميدان للصراع أم جزيرة مهجورة في هذه اللعبة؟
• النتائج

___________________________________________________________________

مقدمة

بنظرة تاريخية عابرة في مسألة تايوان يعلم الناظر أن هذه الجزيرة مرت بأوضاع مضطربة وواجهت أزمات سياسية معقدة وطويلة. بعد انهزام الإمبراطورية الصينية من قبل اليابان في أواخر القرن التاسع عشر بقيت هذه الجزيرة قرابة نصف قرن ( من 1895 إلى 1945 ) تحت حكم اليابان حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. أزمة تايوان الحالية نشأت عام 1949 عقب الحروب الأهلية بين القوميين والشيوعيين، حيث تغلب الشيوعيون وانسحبت قوات الحزب الوطني الذي كان يحكم جزيرة تايوان. هذا الانسحاب تسبب في انشطار الصين إلى دولتين إحداهما جمهورية الصين الشعبية التي يحكمها الشيوعيون المسيطرون على أرض الصين العريقة والثانية جمهورية الصين التي تحكم تايوان والجُزر الصغيرة التابعة لها.
اعتُرف بجمهورية الصين (وهو الاسم الرسمي لدولة تايوان) في بدايات الحرب الباردة من قِبل الكثير من الدول الغربية على أنها الدولة الصينية الرسمية الوحيدة وإحدى الدول الأعضاء المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة وأنها عضو دائم بمجلس الأمن حتى عام 1971. ولكن عندما اعتُرف رسميا بجمهورية الصين الشعبية تم تسليم كرسي الصين في هيئة الأمم المتحدة لها كما قطعت الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها بتايوان عام 1979 وقبلت مبدأ وحدة الدولة الصينية بعد أن كانت الداعم الرئيس لتايوان. وضعت جمهورية الصين الشعبية مبدأ “الصين الموحدة” على صدر استراتيجياتها تجاه تايوان حتى إنها كي تصل إلى هدفها الوطني ولإقناع المسؤولين بتايوان قدمت أطروحة “بلد واحد ونظامان”. حتى هذه اللحظة لم تحظ تايوان بالاعتراف الرسمي إلا من قبل ثلاث عشرة دولة وذلك لأن الصين تُعمل ضغوطا على كافة الدول لتمنعها من الاعتراف الرسمي بتايوان أو القيام بأي خطوة تعني الإقرار بكون تايوان دولة مستقلة.
مع استحضار هذا المسار التاريخي المقتضب، نلحظ أن التنافس الأمريكي – الصيني على تايوان يعود لسبعة عقود من الزمن؛ إلا أن الطور الجديد من المناوشات بدأ مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لمدينة تايبيه عاصمة تايوان في الثاني من أغسطس/2022 رغم تحذيرات بكين. قبل هذه الزياة حذر الرئيس الصيني الرئيسَ الأمريكي في مكالمة هاتفية بأن لا يلعب بالنار في قضية تايوان. نانسي بيلوسي تُعد أرفع مسؤولة أمريكية تزور تايوان منذ عام 1997. اعتبرت الصين هذه الزيارة خطوةً تحريضية وبدأت مناوراتها العسكرية حول جزيرة تايوان. عقب هذه المناورات أعلنت وزارة الدفاع التايوانية أن الصين تستعد للهجوم على جزيرة تايوان.
بالنظر إلى خطورة احتدام التوتر على تايوان وآثاره على مستوى المنطقة والعالم، سنتطرق في هذا المقال إلى التالي: ما هي جذور الصراع الصيني – التايواني؟ هل ستبقى الولايات المتحدة الأمريكية حليفة لتايوان؟ هل سينهار النظام الدولي مع هجوم الصين على تايوان؟ وأخيرا هل ستكون أفغانستان ميدانا للمنافسات في هذه اللعبة أم أنها ستغدو جزيرة مهجورة؟

جذور الصراع الصيني – التايواني

من المنظور التاريخي ومع استحضار تاريخ القرون الأخيرة يُعلم أن جزيرة تايوان كانت جزءا من بلد الصين. بعد انتهاء الاحتلال الإسباني والهولندي للجزيرة ضمت إمبراطورية مانشو جزيرة تايوان لنفسها عام 1683 وجعلتها إحدى ولايات الصين. عقب ذلك هاجر الكثير من الصينيين إلى تايوان. مع أن تايوان صارت مُستعمرة تابعة لليابان بعد انهزام الصين مقابل اليابان في حرب عام 1895 وبقيت تحت سيطرتها إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ إلا أن القرار اتُّخذ في مؤتمر القاهرة المنعقد عام 1943 بأن تُعاد تايوان وكافة المناطق المُحتلة إلى الصين وهكذا سلمت اليابان أرض تايوان لجمهورية الصين الشعبية بشكل رسمي في 25/أكتوبر/1945.
وعلى صعيد التحولات الداخلية التي طرأت في الصين حين كانت هذه الجزيرة ترزح تحت حكم اليابان فإن الصين شهدت ثورة عام 1911 على إمبراطورها تسببت في الإطاحة به وتأسيس جمهورية الصين التي استمر حكمها حتى عام 1949 وشملت جزيرة تايوان. ترجع جذور أزمة تايوان إلى هذه السنة المحددة (1949) حيث تأسست جمهورية الصين الشعبية من قِبل رئيس الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ. وأما القوميون أو حزب الكومنتانج الوطني (KMT) بقيادة شيانج كاي شيك الذي كان يرأس الحكومة المنهزمة فروا حينها إلى جزيرة تايوان وأسسوا هناك جمهورية الصين. أكدت عندها جمهورية الصين والحزب الوطني الحاكم بالجمهورية أنهم هم الممثلون الحقيقيون لبلاد الصين العريقة وأن حكومة جمهورية الصين الشعبية لا تتمتع بأي شرعية.
من القضايا الرئيسة في جذور الصراع الصيني التايواني دورُ الولايات المتحدة الأمريكية بها. الجنرال شيانج كاي شيك بعد انهزام حزبه في الحرب الأهلية وهروبه إلى هذه الجزيرة عام 1949 أسس دولة الصين الوطنية بالدعم الأمريكي كما أن الولايات المتحدة الأمريكية قدمت ضمانا لوجود الصين الوطنية مقابل الصين الشيوعية. زعمت دولة الصين الوطنية امتلاكها لكافة أراضي الصين وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية حصلت على كرسي الصين بهيئة الأمم المتحدة. ولكن في عام 1971 حين سافر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة ريتشارد نيكسون إلى الصين جددت أمريكا رأيها حيال علاقاتها بدولة الصين الكبرى ومهدت لضم هذه الدولة إلى هيئة الأمم المتحدة وإخراج تايوان من المنظمة. شيئا فشيئا باتت تايوان تفقد الدعم الأمريكي إلى أن قطعت الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها بتايوان عام 1979 وأعلن عقب ذلك بفترة قائدُ الصين دينج شياو بينج أن تايوان جزء من الصين وتابع لها. لهذا خاضت تايوان أزمة سياسية محتدمة وحُظرت كافة أنواع التعامل مع الحكومة التايوانية.
في الفترة الحالية أيضا يُعد الدور الأمريكي في قضية تايوان مُشعلا لفتيل التوترات بين الصين وتايوان، حيث يشيع ظن بأن غالبية الآراء لدى عامة الأمريكيين وأعضاء الحزبين السياسيين الجمهوري والديمقراطي تميل إلى دعم تايوان كما أن السيدة بيلوسي التي تُعد ضمن الشخصيات البارزة في الحزب الديمقراطي اتخذت موقفا منددا بقيادة الدولة الصينية. في الوقت ذاته تشهد تايوان على المستوى الداخلي اختلافا في الآراء حيال السياسة الخارجية لحكومتها. الحزب الديمقراطي الحاكم بتايوان (DPP) يميل في سياسته الخارجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية في حين أن قوميي تايوان (KMT) يعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تساعد تايوان لذا عزم نائب رئيس هذا الحزب على السفر إلى الصين عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان.

هل ستبقى الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب تايوان؟

السياسة الأمريكية تجاه تايوان قامت منذ البداية على استراتيجية الإبهام؛ من جانب تلتزم بداعية “الصين الموحدة” والتي تقتضي كون تايوان جزءا من الصين، ومن جانب آخر تؤكد على أهمية عدم تعرض الهيكل السياسي الديمقراطي الحاكم بتايوان ونمط الحكم بهذه الجزيرة المستقلة لتهديدات وتدخلات بكين. في الوقت ذاته تعتبر أمريكا علاقاتها بتايوان علاقات قوية غير رسمية وعلى الصعيد المقابل تُقيم علاقاتها الدبلوماسية الرسمية من خلال قنواتها مع الصين.
في السنوات الأخيرة أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ترخيصا عام 2017 يتيح بيع شحنة كبيرة من الأسلحة لتايوان، وبعد سنة من صدور الترخيص اعتُمد قانون بالولايات المتحدة الأمريكية يهدف إلى تعزيز العلاقات بين واشنطن وتايوان. الرئيس الصيني شي جين بينغ حذر عام 2019 بأن الصين ستستعمل القوة لاستعادة تايوان، كما أنه في حديثه عن بيع شحنة الأسلحة من الجانب الأمريكي لتايوان حذّر أمريكا قائلا بأن عليها أن “لا تلعب بالنار”.
الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن كذلك صرح في أكتوبر/2021 بأن بلده مستعد للدفاع عن تايوان في حال قيام الصين بشن هجمة عسكرية عليها، كما أضاف بأن الصين في صراعها على تايوان تلعب بما يُعد “خطيرا”. تصريح بايدن هذا لا يتوافق مع استراتيجية الإبهام أي سياسة واشنطن القديمة تجاه تايوان. مع ذلك أكد البيت الأبيض بعد تصريحات جو بايدن بأن سياسة واشنطن تجاه تايوان لم تتغير.
بعد هذه التحولات، تحدث الرئيس التايواني لأول مرة منذ عام 1979 عن حضور الجنود الأمريكيين في أرض الجزيرة. إن قضية تايوان التي يعدها البعض بطاقة صفقةٍ قد لا تكون مدروسة إلى حد بعيد. تايوان بالنسبة للصين تمثل خطا أحمر والولايات المتحدة الأمريكية تعلم ذلك إلا أن الأمريكيين استغلوا الموضوع على نحو يبرر حضورهم ضمن نطاق المحيط الهادئ ويُتاح لهم استمالة بعض الدول التي يُحتمل صدور بعض المخاطر منها كاليابان ودول الجنوب وأستراليا. مع أن الأمريكيين يعلمون أنهم لا يُطيقون الدخول في حرب عالمية إلا أنهم جعلوا هذه القضية محورية في مخططاتهم الاستراتيجية.
بعد هجوم روسيا على أوكرانيا والدعم الواسع الأمريكي والغربي لأوكرانيا مقابل روسيا، استقطبت قضية الصين وتايوان أنظار العالم حتى ظهرت بعض التكهنات القائلة بأن الصين قد تهجم على تايوان أيضا بعد هجوم روسيا على أوكرانيا. يأتي هذا في حين أن هناك أوجه تشابه وأوجه اختلاف بين تايوان وأوكرانيا.

يمكننا حصر أوجه الشبه في النقاط الثلاث التالية:

أولا: هناك فارق عسكري كبير بين تايوان والصين كما هو الحال مع أوكرانيا وروسيا، وهذا الفارق آخذٌ في الاتساع كل سنة.
ثانيا: كل من أوكرانيا وتايوان فاقدتان للقوات الحليفة الرسمية، وكلاهما مضطرتان أن تواجها التهديدات أو الهجمات دون مؤازرة خارجية مضمونة.
ثالثا: بما أن كُلّاً من روسيا والصين ضمن الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن وتملكان حق الفيتو، فلا يمكن الاتكاء على وساطة منظمة الأمم المتحدة في وضع حد لهذا الصراع.
على الصعيد المقابل يمكن تلخيص أوجه الاختلاف بين أوكرانيا وتايوان في المحاور الثلاث الآتية:
أولا: الأوضاع المخيمة بتايوان أشد اضطرابا كما أن تايوان لا تملك أي حليف إلا أنها تملك قانونا خاصا يُلزم الولايات المتحدة الأمريكية من عام 1979 بتجهيز تايوان بالعتاد العسكري “حتى تصل تايوان إلى كفاءة تمكنها من الدفاع عن نفسها”. هذا القانون غرامة تدفعها أمريكا لقاء تجنبها التصريح بأنها مستعدة للدفاع عن تايوان في حال وقوع هجوم عليها.
ثانيا: عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية بأنها لن تجعل قواتها تستقر في ثكنات الدفاع عن أوكرانيا. وعندما وصل الدور إلى تايوان انتهجت أميركا سياسة الإبهام الاستراتيجي. حتى الآن لا يُعلم هل ستتدخل الولايات المتحدة عسكريا في الأزمة التي تهدد تايوان أم لا؟ بما أن الولايات المتحدة الأمريكية تفضل أن تُبقي موقفها حيال نوعية ردة الفعل تجاه الهجوم على تايوان مجهولا فإن الصين ستتأنى أكثر في شأن المغامرات العسكرية، وذلك لأن الصين لا مناص لها من اعتبار إمكانية التدخل الأمريكي العسكري في القضية. في الوقت ذاته نجد أن غموض موقف أميركا ألجأ تايوان إلى تصور احتمالية التدخل الأمريكي العسكري. الولايات المتحدة الأمريكية قد حافظت خلال عقود على سياستها الازدواجية حيال قضية الصين وتايوان.
ثالثا: أهم اختلاف بين أوكرانيا وتايوان هو أن أوكرانيا دولة مستقلة في المنظومة الدولية، إلا أن تايوان ليست كذلك. هذه الفروق تدل على أن الوقت قد حان لتجدد الولايات المتحدة الأمريكية نظرها في نمط تعاملها. إن الأفق الذي تسير نحوه الولايات المتحدة الأمريكية ليس واضح المعالم. مع أن الأمريكيين استخدموا بطاقة الحرب دائما للحفاظ على التحام النسيج الداخلي إلا أننا الآن في مرحلة من التغيرات الدولية التي لا يصلح معها استخدام الوصفات القديمة، وحيال أوكرانيا قد ثبت أن رغبة أمريكا في استمرار الحرب تأتي في إطار إنهاك الجسد الروسي والصيني لا في إطار انتصار أوكرانيا وتايوان. الصين أيضا كحال روسيا تصطدم بالقوى، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست على مستوى يمكّنها من إدارة الحرب في أوكرانيا وتايوان على النحو الذي تحبه.

هل سينهار النظام العالمي في حال هجوم الصين على تايوان؟

بدّلت الولايات المتحدة الأمريكية ملفي الحرب الروسية الأوكرانية وسيطرة الصين على تايوان إلى عنصري تمردٍ عالمي. قد تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية في إقليمين جغرافيين مع قوتين كبيرتين على مستوى العالم والمنطقة بالتالي: “عدم زحف الناتو باتجاه شرق أوروبا” مع موسكو عام 1990، وتعهدت بـ “سياسة الصين الموحدة” مع بكين عام 1979. وأما قوات الناتو قد وصلت إلى أبواب روسيا مما يُعد مناقضا لالتزام واشنطن، وأصبحت بوابة روسيا الشرقية حاليا تحت سيطرة الناتو بشكل كامل. والملف الثاني قد انهار بشكل ضمني أيضا ألا أنه لم يبرز بشكل مُعلن حتى الآن. اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بسياسة الصين الموحدة عام 1979 ضمن ثلاث مواثيق رسمية ومشتركة مع بكين وقطعت علاقاتها مع تايوان من حينها. مبدأ الصين الموحدة يعني أن تُعد جزيرة تايوان جزءا من أرض الصين وتكون محكومة من قِبل بكين. والحقيقة، قرب الولايات المتحدة الأمريكية من بكين في تلك الفترة كان يهدف إلى اتساع الخرق بين الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي الروسي. لهذا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية نكصت عن التزامها بمبدأ الصين الموحدة بعد انهيار هيكل الاتحاد السوفييتي واستأنفت علاقاتها مع تايوان. حيال الموضوع الأخير ترى الصين أن سفر بيلوسي إلى تايوان له تأثير شديد على أسس العلاقات الصينية الأمريكية ويُعد ناقضا صارخا لحق الصين في استقلالها وحكمها على أراضيها، إلا أنه يُستبعد أن تقود توترات الصين وتايوان إلى حرب حقيقية خلال مدة وجيزة. يرى المراقبون أن الحرب مكتملة الأركان قد لا تصب في مصالح الصين، كما أن المناورات الصينية الأخيرة إنما كانت استعراضات داخلية لكبح جماح الغضب الجماهيري الصيني من زيارة بيلوسي والإخفاق في منعها من الزيارة.
باستحضار نظريات الأنظمة الدولية ونمط الرؤية الواقعية- الجديدة بشأن السلطة ونظام العلاقات الدولية فإن المنافسة بين القوى الكبرى ظاهرة مستمرة تبرز بصورة موازنة للقوى (وفق نظرية الواقعية الدفاعية) أو كسب موقع للسيطرة (وفق نظرية الواقعية الهجومية). بما أن مصالح القوى الكبرى وأنماط تعاملها لا تُعيّن ولا تُسير من قبل المؤسسات أصالةً، لذا فإن ولوج الصين والولايات المتحدة الأمريكية في لعبة السيطرة بنطاق آسيا – المحيط الهادئ قد أخرج القضية من مستوى المنطقة إلى المستوى الدولي، كما أن آليات التعامل الإقليمي الحالية مع شمولية بعضها ليست كفيلة بحسم المنافسة بين هاتين القوتين الكبيرتين. ثانيا: المنافسة بين القوتين المذكورتين قد ألقت بظلالها على معظم المسائل السياسية – الأمنية بالمنطقة، وبالتالي يصعب حسم هذه التحديات الإقليمية دون وضع اعتبارات هاتين القوتين في الحسبان. ثالثا: الولايات المتحدة الأمريكية والصين تعدان بعضهما قوى متنافسة ذات اختلاف تنظيمي وتأسيسي. الاختلاف التنظيمي في سياق المنافسات السياسية يعني أن هاتين القوتين تملكان أنظمة أيديولوجية واقتصادية وسياسية مختلفة، كما أن الاختلاف التأسيسي في السياق المذكور يعني أن كلا منهما تسعيان لاحتلال موقع أكبر قوة في العالم. لذا فإن حل مواضع الاختلاف لن يكون أمرا هينا. رابعا: بالنظر إلى الحقائق المذكورة، يبدو أن العالم بإزاء نطاق آسيا – المحيط الهادئ سينقسم في المستقبل إلى قطبين مستقلين في أنظمتهما السياسية والفكرية، أحدهما يتمحور حول الولايات المتحدة الأمريكية والثاني حول الصين، وكلٌّ منهما سيكون له أتباعه في مجالات الفكر والسياسة، كما أن الموازنة بين قوى القطبين والمشابهة لأحوال الحرب الباردة المنصرمة ستتبدل إلى آلية من شأنها أن تحافظ على النظام والأمن العالمي ويدخل فيه نظام وأمن نطاق آسيا- المحيط الهادئ. في مثل هذه الظروف ستلعب مؤسسات المنطقة والعالم دورا هامشيا شبيها بالدور الذي لعبته خلال الحرب الباردة.
على الصعيد الآخر، تهدف الصين وروسيا وإيران حاليا بصورة مشتركة إلى تقليل النفوذ الأمريكي الجيوسياسي. لذا يظهر من أدوار القوى الإقليمية حيال توتر الصين وتايوان والحرب الروسية الأوكرانية أن هذه المنافسات ستؤول إلى ما تنبأ به وزير الخارجية الأمريكية السابق بريجنسكي حيال توحد قوى العالم الشرقي.

أفغانستان؛ ميدان للصراع أم جزيرة مهجورة في هذه اللعبة؟

احتدام التوتر حيال تايوان باعتباره مسألة هامة على مستوى المنطقة لن يخلو من تأثير على وضع أفغانستان كذلك. للإمارة الإسلامية علاقات وثيقة مع الصين، وقد ازدادت هذه العلاقات تقاربا مع اكتمال انسحاب القوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان. ترى الإمارة الإسلامية في الصين جارة قوية راغبة في القيام باستثمارات كبرى في أفغانستان. لذا نشرت وزارة خارجية الإمارة الإسلامية بيانا حيال زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان وتوتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، تضمن مطالبة بامتناع الدول عن الخطوات التحريضية ولكن لم تُشر مباشرةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أكد المتحدث باسم وزارة خارجية الإمارة الإسلامية في تغريدة له على مبدأ “الصين الموحدة” وطالب جميع الدول باجتناب أي خطوة تنتهك استقلال الدول في حكمها وتمهد للأعمال التحريضية بين الدول. الإمارة الإسلامية أكدت بأن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تؤثر على أمن وثبات ورخاء دول المنطقة وأن أفغانستان ترغب في حسم التوترات عبر الحوار والطرق السلمية المناسبة.
يجدر القول بأن موقع أفغانستان في المنافسة الصينية الأمريكية بحاجة إلى مزيد من التدقيق والتمحيص، حتى يمكننا التنبؤ بكيفية صمود أفغانستان في هذه الأزمة المعقدة والكثيرة الأوجه باعتبارها أمة واحدة ورقعة جغرافية واحدة تتغيّى المصالح الوطنية والشعبية.
كما يظهر من كيفية وماهية التوترات الدولية والإقليمية بدءا من حرب أوكرانيا وانتهاء بتوترات تايوان فإن الصراع على تايوان القائم أصالة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية يدلنا على أن أفغانستان تُعتبر هامة جدا في السياسة الخارجية لكلا البلدين. مع أن أفغانستان باعتبار قضاياها الداخلية تُعد ذات أهمية لقوى المنطقة والعالم إلا أن هذا البلد قد حظي باهتمام عالمي طيلة التاريخ بسبب موقعه على الخريطة فلعبت أفغانستان في السابق دور حائل يحول دون الاصطدام بين قوى العالم، أما حاليا فإن أفغانستان وفق تصريح (بري بوزان) هامة باعتبارها محط أنظار القوى الدولية المتنافسة. لذا هناك اهتمام بالغ بأفغانستان باعتبارها أحد العوامل المؤثرة في التنافس الاحترابي وذلك بسبب دورها الخطير في سياسات القوى الكبرى على مستوى المنطقة والعالم.
مع الأسف، ما دامت هذه النظرة باقية تجاه أفغانستان فمن الصعب تحقق الاستقرار الدائم بالبلد، وذلك لأن مبنى تصرف القوى الكبرى بأفغانستان هو التنافس لا التعاون، وهذا التنافس يشتد يوما بعد يوم، خصوصا بعد أن باتت مراكز ثقل هذه المنافسات (نطاق آسيا- المحيط الهادئ وأوروبا الشرقية) أكثر قربا من أفغانستان. في مثل هذه الأوضاع الحساسة على الإمارة الإسلامية أن تتحلى بالحذاقة الكافية وأن تحافظ على وحدة النسيج الداخلي بالبلد وتتبني الدبلوماسية المحايدة في الشأن الدولي مع استحضار المصالح الوطنية، حتى لا تصير أفغانستان في هذا الفصل من التاريخ ميدانا لصراع القوى الدولية الكبرى مرة أخرى.

النتائج

بعد سفر رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوس إلى تايوان، لم تحتدّ التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فحسب وإنما برز على السطح احتمال شن الصين هجوما عسكريا على تايوان بعد المناورات التي قامت بها على أطراف الجزيرة، إلا أن معظم التحاليل تقول بأن التوترات الصينية التايوانية لن تؤول إلى حرب مكتملة الأركان، على الأقل خلال مدة وجيزة.
وفيما يتعلق بمستقبل النظام العالمي، يعتقد معظم المراقبين بأن العالم آيلٌ إلى انقسامات قطبية سواءً رغبت الولايات المتحدة الأمريكية بذلك أم لم ترغب، كما أن التصرفات التحريضية التي تقود إلى حروب إقليمية تُعد خسارة عالمية وسيكون الفائز في هذه الحرب هو الجانب الصيني على أغلب تقدير. لهذا، على الولايات المتحدة الأمريكية أن تنخلع عن فكرة الإدارة الموحدة بالعالم، وذلك لأن العالم غير قابل لأن يُدار من قِبل قوةٍ واحدة. إن وضع العالم بعد انهزام الاتحاد السوفييتي وضع استثنائي، ولكن فيما بعد سيصير من الطبيعي وجود قوى متعددة في العالم.
حيال موقع أفغانستان في هذه اللعبة؛ مع أنه لا توجد سياسة خارجية مدونة لأفغانستان إلا أن مواقف الإمارة الإسلامية تدل على انتهاجها مبدأ الحياد في سياستها الخارجية. رغم أن سياسة الإمارة الإسلامية في الفترة الحالية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية هي عدم التوتر حتى لا تمانع من اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة الأفغانية؛ ولكن بالنظر إلى احتدام التوترات حيال تايوان يجدر التذكير بأن من الخطأ تقرّب الإمارة الإسلامية من الصين إلى الحد الذي يثير عداوة الجانب الأمريكي ويؤول مرة أخرى إلى أخذ الثأر من الشعب الأفغاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *