الذكرى الأربعون للاجتياح السوفييتي لأفغانستان
السادس من شهر جدي/1398 الموافق لـ 27/ديسمبر/2019م هو تاريخ الذكرى السنوية لاجتياح القوات السوفييتية لأفغانستان قبل أربعين سنة من بوابة حيرتان الحدودية؛ مدججين بالسلاح والعتاد. وقد حصل الاجتياح وقد سبقه وصول كتائب عسكرية روسية إلى مطار بجرام وتموقعهم في المناطق الإستراتيجية الحساسة. وسبب هذا الاجتياح هو كبت المقاومة الشعبية التي كانت تحارب الحكومة الشيوعية الأفغانية التابعة لموسكو في معظم محافظات أفغانستان. إلا أن هناك أسبابا أخرى للاجتياح المذكور. نيران الحرب التي أوقدها الحزب الشيوعي الديمقراطي وأحباؤهم الاشتراكيون في أفغانستان مازالت تلتهب فترة بعد فترة، وتلتهم عشرات الأفراد من مواطنينا يوميا. التعدي الروسي السافر على أفغانستان كان من أفظع فترات تاريخ البلد، وسنلط الضوء في هذا المقال على كيفية ذلك الاجتياح؛ والجهات التي سهّلت ومهّدت له الطريق.
الاجتياح، وردود الأفعال
يعترف الجيل الجديد من حكام روسيا أن التعدي على أفغانستان كان من أكبر أخطاء الكرملين في سياسته الخارجية في ثمانينات القرن الماضي. الاجتياح السوفييتي لأفغانستان حصل في الظاهر استجابة للمطالبات الرسمية التي قدمتها الحكومة الأفغانية؛ إلا أن أجنحة تلك الأحزاب الشيوعية الأفغانية تحاول التبرؤ من تبعات جريمتهم النكراء. عبر إذاعة طاشكند الطاجكستانية؛ قام ببرك كارمل رئيس حزب (برجم) الديمقراطي الشيوعي بإعلان سقوط حكومة حفيظ الله أمين رئيس حزب (الشعب) الديمقراطي الشيوعي؛ واستلامه لزمام الحكم بدلا عنه. ومنذ تلك اللحظة انطلق الأفغان في جهادهم تجاه الشيوعيين وأذنابهم، متوكلين على الله تعالى. في اليوم الأول من الاجتياح السوفييتي لأفغانستان؛ قُتل حفيظ الله أمين بعد قتله معلمه الموسوم بنابغة الشرق (نور محمد تركه)؛ في حين كون حفيظ الله أمين في حفل على مستوى عال شهده قادة الحكومة والحزب الشيوعي مع زوجاتهم في قصر تاج بيك. وفق التقارير؛ تم تسميم حفيظ الله من قِبل طبّاخته الروسية ومن ثم هجوم قوات الكوماندو الروسية؛ وتبع ذلك القضاء على محافظيه الذين كانوا بالمئات. دخل كارمل أفغانستان في دبابة روسية؛ واعتلى كرسي الحكم مكان أمين. وهكذا عبر انقلاب مُعدّ انتقل الحكم من جماعة (الشعب) إلى جماعة (برجم) في الحزب الديمقراطي الشيوعي. وفي الطور الجديد من الانقلاب الشيوعي (انقلاب ثور) ازداد عدد المستشارين الروس في الإدارات الحكومية المختلفة عدة أضعاف؛ وصاروا هم المشرفين على شؤون الدولة العسكرية والمدنية. قاتل نحو 620 ألف جندي روسي ضد المجاهدين في أفغانستان في تلك الفترة ( وليس المراد هنا تواجد هذا العدد بالكامل في وقت واحد)، وبعد 9 سنوات من المقاومة الشعبية التي قام بها حُماة الوطن؛ خرج الغزاة الروس بتاريخ 31/ديسمبر/1991 من أفغانستان مهزومين.
قرار الهجوم
عقد المكتب السياسي الشيوعي جلسة في أغسطس/1979م حيال الحالة السياسية والعسكرية بأفغانستان، حضرها وزير الخارجية الروسي جروميكو؛ ورئيس الاستخبارات الشيوعية أندروبوف، ووزير الدفاع المارشال أوستينوف، ونائب وزير الخارجية كرنينوف، والجنرال الأعلى بالجيش الشيوعي اكاركوف. وبعد الجلسة المذكورة؛ تكررات جلسات المارشال أستينوف وزير دفاع الاتحاد السوفييتي مع الجنرال الذي تحت إمرته، من تاريخ 1/أغسطس إلى تاريخ 24/أغسطس/1979م، وأخيرا أُعلن في 24/أغسطس عن القرار الذي اتخذته الجهات العليا في الاتحاد السوفييتي بإرسال الكتائب العسكرية الشيوعية إلى أفغانستان، عبورا من نهر آمو، قائلين في الإعلان: غدا ستدخل القوات الشيوعية أرض أفغانستان. في تاريخ 25/أغسطس/1979م دخلت الكتيبة العسكرية الأربعون عبر الحدود الأفغانية الشمالية، جوا وبرا. كما شُكلت المناصب التالية: تعيين توخارينوف قائدا، وتعيين فوتكابوف مديرا سياسيا، وتعيين الجنرال لويانوف رئيسا للقوات المسلحة، وتعيين الجنرال كركاكين قائدا للاستخبارات. الكتيبة الأربعون كانت متشكلة من مئة مجموعة مجهزة بالعتاد، واشتملت على أربع فرق تسير بالدبابات؛ وهي: فرقة المدفع، وفرقة الصواريخ، وفرقة المهندسين والاتصاليين، وفرقة الخدمات اللوجستية. وصل عدد القوات المذكورة إلى 80 ألف جندي عام 1979م، وقد تم زيادة العدد فيما بعد وبلغ 115 ألف جندي، واستقروا في المناطق الهامة والإستراتيجية مثل مطار كابل، ومطار بجرام، ومنطقة شين دند.
مساعدوا الاجتياح من الأفغان
كل واحد من الجناحين يتهم الجناح الآخر بدعوة القوات الروسية للتدخل العسكري، ويُقيمون شهادات كثيرة على ذلك. جناح الشعب ينفي هذه التهمة ويتهم جناح (برجم) بذلك، وجناح (برجم) بدوره يلقي باللائمة على جناح الشعب، ولعل جهود جناح الشعب في ذلك تهدف إلى تخفيف العبء الثقيل المُلقى على عواتقهم تجاه قضية الاعتداء الروسي السافر. ولأجل اتضاح القضية، سنلقي نظرة على بعض التصريحات والمستندات والمذكرات واللقاءات التي أُثرت عن الشيوعيين الأفغان وغيرهم. ادعى محمد قاسم آسمايي أحد كُتّاب جناح (برجم) الديمقراطي الشيوعي في ترجمته لإحدى الوثائق السرية من الحكومة الشيوعية أن نور محمد تره كي وببرك كارمل كلاهما قاما بدعوة القوات الشيوعية لدخول أفغانستان لحماية الحكومة الشيوعية في أفغانستان. كتب محمد حسن شرق رئيس مجلس الوزراء في فترة حكومة د. نجيب – آخر رئيس أفغاني شيوعي – في الصفحة رقم 158 من كتابه (المتلحفون الحفاة) : “عُيّن نور محمد تره كي رئيسا لدولة أفغانستان في بداية شهر سبتمبر/1979م من قِبل الحزب الديمقراطي الشعبي، وشارك في مؤتمرٍ بهاوانا؛ وفي عودته زار موسكو وقبِلَه الاتحادُ السوفييتي رئيسا. قام تره كي بعدها بمطالبة الاتحاد السوفييتي بإرسال قواته للدفاع عن الانقلاب الشيوعي الحاصل في أفغانستان. في كتاب (الحرب في أفغانستان) والذي ألفه عدد من الباحثين بمعهد الدراسات التاريخية العسكرية في روسيا، نجد نقلا عن عدد من الوثائق السرية المتبقية من الحكومة الشيوعية الأفغانية، وتتضمن الوثائق تكرر مطالبة كل من نور محمد تره كي وحفيظ الله أمين من القوات السوفييتية بالتدخل العسكري في أفغانستان، وقد بلغ عدد هذه المطالبات عشرين مطالبة، نُسبت سبعة منها لنور محمد تره كي، وننقل هنا بعضا مما احتوته هذه الوثائق: ” رسالة من كابل 11/7/1979م (سري، عاجل) : في تاريخ 11/يونيو/1979م قال تره كي: ” سيكون من المستحسن جدا أن يقرر الجانب السوفييتي إرسال عدد من الكتائب العسكرية السوفييتية الخاصة – بحيث يبلغ عدد كل مجموعة عدد كتيبة عسكرية – في حال توتر الأوضاع في العاصمة بشكل سريع.” – مندوبية ك . ج. ب في كابل. “رسالة من كابل (سري وعاجل) التقيتُ في 11/أغسطس بأمين برغبته. وقد اتجه حديثنا إلى استحسان قدوم الكتائب الشيوعية إلى أفغانستان. كما أنه كرر عدة مرات: “حضور القوات الشيوعية سيرفع معنوياتنا بشكل كبير وسيمنحنا اطمئنانا وراحة بال. ولعل قادة الاتحاد السوفييتي يعتقدون أن إرسالهم للجنود سيمكّن من وسْم هذه الخطوة تدخلا عسكريا من قِبل أعدائنا في الخارج، إلا أنني أُطمئنكم أننا دولة مستقلة وحرة، ونتخذ قراراتنا كلها باستقلالية تامة. جنودكم لن يُشاركوا في الحروب، وسنطلب عونهم في الأوقات الحرجة فقط. أعتقد أننا مع بدء الربيع سنكون بحاجة إلى تواجد الكتائب الشيوعية في أفغانستان.” جريلف، 12/8/1979م. “رسالة من كابل في تاريخ 12/أغسطس وجّهنا رئيس جهاز الأمن الأفغاني (سروري) بتوجيه من أمين أن نُسرع في إنجاز ما طلبه قادة الحزب الشعبي الديمقراطي الشيوعي في أفغانستان من إرسال الكتائب السوفييتية الخاصة وتوصيل المروحيات الخاصة بالنقل مع الجنود الروسيين إلى كابل. كما نُطالب بإرسال كتبيتين خاصتين لتعزيز حماية مطار بجرام والأخرى لحماية حصن (بالا حصار).”
بوزانف، إيفانف، جريلف 12/8/1979م.
فی انتظار الأمن والسلام
التعدي الروسي السافر (المسمى باجتياح السادس من شهر جدي) بالإضافة إلى ما كبده من خسائر فادحة في الأموال؛ تسبب في استشهاد ملايين الأفغان كما خلّف عشرات الآلاف من الجرحى والمُعاقين والأيتام والأرامل. والأفظع من ذلك أن الاجتياح الروسي هو الذي مهّد للتدخل غير القانوني في الشأن الأفغاني الداخلي من قِبل الدول المجاورة وغيرها بشكل غير مسبوق. في عام 1371هـ شـ بعد انهزام القوات السوفييتية وسقوط حكومة د. نجيب على يد المجاهدين الأفغان، تم العفو عن المشاركين في مجازر السوفييتيين من قِبل حكومة المجاهدين؛ حتى يرجع الأمن والسلام إلى البلد، وحتى لا يُسمع صوت الرصاص مرة أخرى، إلا أن الأمن المنشود لم يحل. وبسبب عدم كفاءة حكومة المجاهدين وبسبب الحروب الداخلية من قِبل الأحزاب المتنافسة وبسبب المؤامرات المُحاكة من أعداء أفغانستان داخل وخارج أفغانستان، لم يحل السلام في البلد، واستمر التدهور الأمني إلى أن وصلت بلادنا إلى تعدٍّ جديد رفعت رايته الولايات المتحدة الأمريكية المنافسة للاتحاد السوفييتي. لهذا لم يستطع الأفغان أن يُغرموا الحكومة الروسية التي خلَفت الاتحاد السوفييتي تجاه الخسائر التي سببتها الحرب، كما لم يستطيعوا أن يُحاكموا المتورطين في مساعدة السوفييتيين على الاعتداء. وفي الوقت الحالي حيث تمر البلد بظروف حساسة، وقد فُتحت نافذة تجاه السلام؛ يُؤمل من دولة روسيا، ومن بقايا النظام الشيوعي المحتل في أفغانستان أن يساهموا في إطفاء الحرب التي أشعلوها قبل أربعة عقود؛ قضاءً منهم لبعض الديْن الذي في رقابهم تجاه الشعب الأفغاني.