مؤتمرات موسكو وتركيا حيال مفاوضات السلام الأفغاني
دوکتور مصباح الله عبدالباقی
رئیس المجلس العلمي – مركز الدراسات الاستراتيجية والإقليمية
بعد انتشار الرسالة الموجهة من وزير الخارجية الأمريكي إلى الرئيس الأفغاني محمد أشرف غني دخلت محادثات السلام الجارية في أفغانستان طوراً جديداً. التطور حصل في محادثات السلام المتوقفة في الدوحة عاصمة قطر حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستطالب الحكومة التركية باستضافة مؤتمر متعلق بالسلام الأفغاني. روسيا أعلنت كذلك عن استضافتها لمؤتمر إقليمي يضم الأحزاب الأفغانية ويُعقد على أغلب تقدير يوم الخميس الموافق 18/مارس/2021م في موسكو. كيف ينظر الشعب الأفغاني إلى هذه المؤتمرات؟ وما هي النتائج المرجوة منها؟ وماذا يترتب عليها؟ أسئلة نسعى للإجابة عنها في هذا المقال.
أولاً: ما كان ينبغي أن يحدث ذلك لشعب متحضر
الشعوب المتحضرة رغم اختلافاتها تحل قضايها عبر الحوار والتفاهم ولا تسمح لأي جهة بالتدخل في شؤونها الداخلية كما أنها لا ترفع خلافاتها إلى مستوى يجعل التفاهم الداخلي بين جماعاتها أمرا متعذرا. إلا أن الأمر في أفغانستان ليس كذلك مع الأسف، حيث فوّت القادة الأفغان الكثير من الفرص على الشعب خلال العقود الماضية بسبب رغباتهم ومصالحهم الشخصية وعدم كفاءتهم، ودائما ما تم تعيين مصير الأفغان من قِبل الأجانب، واتُّخذت في حق الشعب قرارات لم تُفضِ إلا إلى نتائج سيئة. في الفترة الحالية وعلى مقربة من موعد خروج القوات الأجنبية المسلحة من أفغانستان خسر الشعب الفرصة القائمة للتفاوض الداخلي وتهيأت الأوضاع مرة أخرى لتحدد دولُ العالمِ مصيرنا وتتخذ القرارات لنا، وهذا النوع من القرارات في الغالب لا يحل مشاكل الشعب وإنما يزيد في عددها ويُضخمها. ومع كل ما ذكرناه فلا يوجد أي حل آخر سوى انعقاد المؤتمرات المذكورة، وذلك لعدم وجود أي مؤشرات ولو على المدى البعيد تدل على حصول الاتفاق الداخلي الذي يحل القضية الأفغانية التي طالت أزمتها. والسؤال الذي يُطرح هنا هو: لمَ بلغ الأمر إلى هذا المستوى بعد الاتفاقية الموقعة بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية؟ ولماذا لم تُحصد أي نتائج من مفاوضات الدوحة؟
ثانيا: لم أخفقت مفاوضات الدوحة؟
لم يتم إيجاد جو الثقة المطلوب لنجاح مفاوضات الدوحة، بل قُصد إفشال مفاوضات الدوحة وتعريضها للتوقف بشكل متتابع، وقد تم ذلك ضمن إستراتيجية مُخططة، حيث صرح (مولانا فريد) المتحدث باسم النائب الأول لرئيس الجمهورية في لقاء متلفز حيال موقف الحكومة تجاه المقترح الجديد المقدم من الولايات المتحدة الأمريكية قائلاً: “إن هذا المقترح ليس إلا خطاً على الورق ولن يُنفذ؛ وكما أفشلنا اتفاقية الدوحة (الاتفاقية الموقعة بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية) ولم يكن لها أي نتيجة فكذلك سيكون مصير المقترح الجديد”. نرى هنا أنه يعترف صراحة بأنهم هم من أفشلوا اتفاقية الدوحة، وبأنهم يعتزمون إفشال المقترح الجديد كذلك.
لأجل إفشال اتفاقية الدوحة أوجدوا حالة أمنية سيئة في أفغانستان، حيث لا تستطيع أي جهة أن تُعمل ضغطا يهدف لإنجاح عملية السلام. وبسبب كثرة التفجيرات والاغتيالات لا تقدر أي جهة على القيام بمظاهرات واحتجاجات أو عقد تجمعات حاشدة تتعلق بالسلام، ومن ثم لا يمكن إحداث تنسيق واتفاق في الرؤى بين التيارات السياسية، ومتى ما وُجد أي اتفاقٍ فسرعان ما تتم إزالته. أما الشخصيات التي تبذل مساعيها بانفراد لإنجاح عملية السلام فإنم يُغتالون واحداً تلو الآخر أو يُهددون بالاغتيال.
يبرز هنا سؤال مفاده: لماذ تُقدِم الحكومة على ذلك؟ للإجابة على ذلك نقول بأن فريق القيادة بالحكومة الأفغانية قد خمّنت أن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن ستجدد النظر في اتفاقية الدوحة كما أن دور زلمي خليلزاد في عملية السلام الأفغاني سيقل، ذلك الجمهوري المُنتخب من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم مقترح السلام والشخصية الأكثر تأثيرا في العملية؛ ومع تقليل دوره سيقل الضغط على الحكومة الأفغانية ويقدر الفريق الحكومي على الاحتفاظ بالسلطة وإكمال فترته الممتدة لخمس سنوات على الأقل؛ وخلال هذه الفترة إما أن تُضطر حركة طالبان للدخول في عملية السلام وفق تعريف الحكومة وذلك بإدغام الحركة في النظام القائم ولا شيء أكثر من ذلك – مثل ما حصل للحزب الإسلامي – أو أن تستمر الحرب وتُلجئ الحكومةُ الأفغانيةُ الولايات المتحدة إلى إبقاء قواتها في أفغانستان لمدة طويلة لأجل الدفاع عنهم، ولأجل أن تُضطر القوات الأمريكية للبقاء في أفغانستان تم رفع معدل العنف في البلد وتم تصعيد الهجمات العسكرية الليلية والقصف وعمليات المداهمة من قِبل القوات الخاصة ومازال كل ذلك مستمراً، حتى يُثبتوا للعالم بأن خطر الإرهاب لا يزال باقيا في أفغانستان ومن ثم ينبغي على دول العالم أن لا تبرح أرض أفغانستان.
تلجأ الحكومة الأفغانية لهذه الأساليب المصطنعة في وقت يعلم فيه أكثر الشعب الأفغاني أن الحكومة الأفغانية خسرت جميع مقومات ومبررات بقائها؛ ذلك لأن الفساد فيها قد بلغ ذروته، وتم تولية أشخاص غير أكفاء على الإدارات الحكومية، وباتت المسؤوليات والمناصب الحكومية تُباع وتُشترى في حين أنها لم توضع في الأصل إلا لخدمة الشعب، كما أن معدل الفقر قد زاد في البلد حيث صار أكثر من ٪ 70 من سكان أفغانستان يعيشون تحت خطر الفقر، وثروات أفغانستان باتت تُسرق وتُنقل إلى الخارج، ولم يعد أحد في البلد يأمن على نفسه من غوائل أذرع الاستخبارات الإقليمية والدولية؛ وأما الكثير من العلماء والناشطين المدنيين والأساتذة والشخصيات السياسية فإنهم يُغتالون أو يستترون خوفا من الاغتيال أو يُضطرون للهجرة وترك البلد.
إلا أن قريق القيادة الحكومية بأفغانستان أخطأ في حساباته وتمت مفاجأته، وذلك لأن الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن لم تجدد النظر في قرار إخراج قواتها من أفغانستان كما أن دور زلمي خليلزاد لم يُمح من القضية الأفغانية وإنما زادت أهمية دوره فيها، ولعل السبب في ذلك هو أن الدول القائمة على المؤسسات تتخذ قراراتها الاستراتيجية بناء على ما تراه المؤسسات العاملة فيها لا ما يراه الأفراد، ويتم اتخاذ القرارات بعد دراسات دقيقة ومستفيضة ولا تتأثر هذه القرارات بتبدل الحكومات والأشخاص.
من جانبٍ آخر استمرت حركة طالبان في عملياتها العسكرية لكي تعزز موقفها في المفاوضات الأفغانية وتحصد أكبر حصة من نظام الحكم القادم. ومع أن حركة طالبان كانت في حالة وقف كامل لإطلاق النار مع القوات الأجنبية – حيث لم يشنوا عليهم خلال العام الماضي أي هجمة – إلا أن حركة طالبان صعّدت من هجماتها ضد القوات الأفغانية واستمرت في تنفيذ عملياتها العسكرية في المدن مما أودى بحياة من لا يُحصون كثرة من الشعب الأفغاني.
ونتيجة لهذه المواقف غير العقلانية وصل الشعب إلى حالة يُرثى لها وصار مُضطراً أشد الاضطرار للسلام بل صار السلام قضية موت أو حياة بالنسبة له. إن الشعب الأفغاني المكلوم بات يقدّر أن القضية الأفغانية لا حل لها سوى الحوار والتفاوض وإذا لم تخضع الجهتان المتنازعتان لصوت العقل والحكمة فستواجه البلد مصائب جديدة وستبدأ حرب أهلية أخرى تزول على إثرها جميع المؤسسات والنظم من البلد وتبدأ سلسلة من العنف والفوضى لا نهاية لها. دائما في مثل هذه الأوضاع ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كصمام أمام وقدمت أطروحة التفاوض الداخلي بين الجهات الأفغانية. إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب حقيقة في أن تصل الجهات الأفغانية إلى نتيجةٍ كان بإمكانها تحقيق ذلك عبر إعمال الضغط، إلا أنها لم تفعل ذلك وسمحت للأوضاع بأن تتردى إلى هذه الدرجة، لكي تواجه أطروحتها المقدمة لحل الأزمة – والتي قُدمت بعد أن أخفقت مفاوضات السلام- قبولا كاملاً.
مؤتمر موسكو
مع أن خطاب وزير الخارجية الأمريكي يُطالب الدول التركية باستضافة مؤتمر حول القضية الأفغانية يضم دول المنطقة والعالم، إلا أن روسيا لكي تُحافظ على نفوذها ومكانتها في القضايا الإقليمية والدولية رتبت مؤتمرا يُعتزم انعقاده في تاريخ 18/مارس/2021م، ومن المقرر أن يُشارك فيه مندوبو الحكومة الأفغانية وعدد كبير من الأحزاب والشخصيات السياسية.
آمال الشعب الأفغاني المتوقعة من مؤتمرات موسكو وتركيا
للشعب الأفغاني آمال يرقبها من هذه المؤتمرات الشاملة، وأهمها هو أن يكون لهذه المؤتمرات نتائج عملية، وذلك لأن الحالة الراهنة في البلد بلغت حداً لا يُطيقه الشعب. إن الوضع الحالي بأفغانستان إذا لم يُوضع له حد انتهاءٍ سيجر البلد إلى حرب أهلية أخرى تزول على إثرها كافة الإدارات والأنظمة. الآمال المُرتقبة من المؤتمرات يمكن إجمالها في التالي:
أولاً: يجب أن يكون للمؤتمر نتائج عملية، وينبغي حل جميع القضايا والنزاعات في المؤتمر وتُزال أسباب استمرار الحرب، وذلك لأن القضية إذا فُوضت للجهات المقاتلة مرة أخرى فستبتذل هذه الجهات مصير الشعب الأفغاني وتلعب به، ولطالما تجنبت حل القضايا عبر الحوار.
ثانياً: ينبغي أن يتم هناك تأسيس إدارة أو حكومة مؤقتة تعمل على إيجاد جو من الثقة؛ وذلك لأن إنهاء الحرب في حال انعدام الثقة المتبادلة أمر غير ممكن.
ثالثاً: على طرفَي النزاع بأفغانستان وكذلك بقية التيارات والشخصيات السياسية أن يوجهوا أنظارهم تجاه مصالح الشعب بدلا عن المصالح الشخصية والحزبية، وذلك لأن المصالح الشخصية والحزبية تُبعد المواقف عن بعض، والتركيز على مصالح الوطن والشعب يُقرب المواقف والأفكار.
رابعاً: ينبغي أن تجتنب الجهات المشاركة محاولة إبعاد أي حزب عن محور السلطة؛ وذلك لأن هذه التجربة الفاشلة قد تكررت في مؤتمر بُن، وأثمرت نتائج سلبية خطيرة.
خامساً: ينبغي تنفيذ وقف إطلاق النار في أفغانستان بصورة فورية، وعلى الجهات الضالعة في القتال أن يجتنبوا إطلاق رصاصة واحدة، وذلك لأن السلام والحرب أمران متناقضان.
سادساً: ينبغي أن يُؤخذ تعهد من طرفَي النزاع بمحو تصور قضية الفاتِح والدولة المفتوحة؛ وذلك لأن دخول طالبان إلى النظام على هيئة الجهة الفاتحة سيعني إزالة جميع الأنظمة القائمة وتكرار حقبة التسعينات من القرن الماضي إبان دخول المجاهدين إلى كابل، ولن يُنتج ذلك سوى مآسي ونكبات.
سابعاً: على دول المنطقة أن تتعهد بعدم التدخل في شؤون أفغانستان.
ثامناً: على المجتمع الدولي أن يلتزم بتقديم الدعم المالي للحكومة الأفغانية على الأقل إلى حين تشكيل الحكومة الأفغانية المُنتخبة القائمة على أساس دستور البلد؛ وذلك لأن الحكومة المؤقتة لن تقدر على أداء مهامها دون هذا الدعم.
إذا تم تنفيذ هذه المطالب فإن المؤتمر سيُثمر نتائج طيبة؛ والذي ننشده ونأمله من القيادات السياسية الأفغانية أن تستثمر هذه الفرصة السانحة باحتياط كامل مع اهتمام بمصالح الشعب، وإذا لم يتم ذلك فإن التاريخ سيُخلّد خزيهم وعارهم.