الفساد الإداري الواسع في جمارك أفغانستان؛ الأسباب وطرق المكافحة

مقدمة

خلال العقدين الماضيين بلغ الفساد ذروته في مختلف القطاعات الإدارية بأفغانستان. وفي هذا السياق نُشرت تقارير بين الفينة والأخرى تتحدث عن الفساد العريض في معابر أفغانستان الحدودية. مع أن الحكومة الأفغانية وعدت الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي بالتصدي لظاهرة الفساد إلا معدل الفساد – على عكس ما التزمت به الحكومة – آخذٌ في الارتفاع.

بالإضافة إلى التقارير العديدة الصادرة من المؤسسات الدولية حول الفساد في أفغانستان، صرح مؤخرا الرئيس الأفغاني غني بأن أكثر من نسبة 50% من إيراد البلد يُختلس ويُنهب. في التاسع عشر من مايو الماضي صرح الوزير المكلف بوزارة المالية الأفغانية محمد خالد بايندة في جلسة استجواب بالبرلمان أن مبلغ 8 ملايين دولار على الأقل يُختلس يوميا في المعابر الحدودية. وقد وعد وزير المالية المكلف بالإفصاح عن أسماء المتهمين بالفساد في المعابر الحدودية إلا أنه لم يفعل ذلك حتى الآن، ويسعى البرلمان الأفغاني لإلجاء الوزير المكلف إلى ذكر أسماء الضالعين في الفساد المذكور.

إن قضية الفساد في المعابر الحدودية تُثار على مستوى أخبار منقولة في وسائل الإعلام ولا تظهر أي إجراءات عملية تهدف لاستئصال هذه الظاهرة. هناك حاليا قدرٌ كبيرٌ من الميزانية السنوية بأفغانستان يُضخ من الجهات المساعدة الأجنبية وتسعى الحكومة الأفغانية لرفع معدل إيراداتها على المستوى الداخلي؛ ولكن إذا كان الفساد في جمع الإيرادات قد بلغ هذا الحد الذي ألجأ الرئيس الأفغاني ووزير المالية المكلف إلى الحديث عن اختلاس الإيرادات ونهبها؛ فيتضح أن البلد ستواجه أزمة اقتصادية في المستقبل القريب بالتزامن مع تقلص المساعدات الأجنبية. في عملية حساب بسيطة، إذا قدّرنا المبلغ المهدر يوميا بـ 7 إلى 8 ملايين دولار، فسيكون الناتج هو تبدد 2.7 مليار دولار في العام مما يشكل قريبا من نصف الميزانية السنوية بأفغانستان.

ولأهمية هذا الموضوع وكون مكافحة الفساد على المستوى المطلوب كفيلة بسوق البلد نحو الاكتفاء الذاتي، ونظرا للفساد العريض في المعابر الحدودية فقد سعينا في هذا المقال إلى تسليط الضوء على عوامل الفساد المذكور كما قدمنا مقترحات للتصدي لهذه الظاهرة.

الفساد في المعابر الحدودية

إن الجمارك باعتبارها قطاعا اقتصاديا تنفذ قوانين الدول في حركة عبور البضائع والاستيراد والتصدير، والعديد من المجالات الهامة الأخرى، كما أن جمع الإيرادات الذي هو من مهام الجمارك الأساسية يُعد مصدرا هاما للتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الدول. إلا أن الدراسات في الوقت ذاته تُظهر أن أعلى معدلات الفساد في الدول النامية إنما يكون في إدارات الجمارك. بشكل عام، تنتشر ثلاثة أشكال من الفساد في الجمارك وهي:

  1. الفساد اليومي: حيث يقوم التجار وأصحاب الشركات الأهلية بدفع الرشاوي في سبيل تسريع أعمالهم الجمركية.
  2. الاختلاس: حيث يقوم التجار وأصحاب الشركات الخاصة بدفع الرشاوي لمسؤولي الجمارك حين التخليص الجمركي، بغية تخفيف الضرائب الجمركية المقررة على بضائعهم أو إعفائهم منها بصورة غير قانونية.
  3. الأعمال الإجرامية: وهي تشمل استيراد وتصدير المواد والبضائع المحظورة قانونيا، مثل المخدرات وغيرها من المنتجات.

بالنظر إلى التقارير المتعلقة بالفساد الموجود في جمارك أفغانستان، يظهرُ أن أنواع الفساد الثلاثة المذكورة مُشاهدة في الجمارك بصورة حية. بالإضافة إلى الفساد في عملية استيراد وتصدير البضائع القانونية، هناك بضائع محظورة تُصدّر وتُستورد، منها على سبيل المثال: المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع المتفجرات، وكذلك المسكرات مثل الخمر وأقراص K المخدرة، حيث يتم إدخال هذه المواد إلى البلد نتيجة تساهل موظفي الجمارك ونتيجةً للفساد في هذا القطاع. وفق النتائج التي توصلت إليها إدارة مكافحة المخدرات والجريمة بالأمم المتحدة في تقريرها المنشور عام 2012م فإن ثاني أعلى نسبة من الرشاوي في إدارات البلد هي نسبة الرشاوي المدفوعة في الجمارك بعد جهاز العدل والقضاء. وفق نتائج التقرير المذكور فإن متوسط قدر الرشوة المدفوع في الإدارات القضائية يبلغ 300 دولار، كما أن متوسط قدر الرشوة في الجمارك يبلغ 200 دولار.

نموذج من الفساد في الجمارك وفق الشهود العيان

سنذكر هنا نموذجا من الفساد في جمارك البلاد وفق ما يحكيه الشهود العيان. عام 2018م تم افتتاح الإدارة الجمركية بمديرية برمل بولاية بكتيكا. أجرى مركز الدراسات الإستراتيجية والإقليمية حوارا مع شهود عيان ترددوا على الإدارة المذكورة وطلبوا عدم ذكر أسمائهم. قال الشهود بأن مسؤولي الإدارة الجمركية المذكورة طبعوا أوراق مزورة مشابهة تماما للأوراق المعتمدة، وبالتالي لم تكن الإيرادات الجمركية تصل إلى خزانة الدولة.

كما أن الضرائب الجمركية التي كانت تُستحصل من التجار لم تكن كاملة وإنما يعمد الموظف إلى الفساد ويتفق مع التاجر على دفع ضرائب نصف الشحنة بدلا من دفع الضرائب كاملة. كما أضاف الشهود أن البضائع تُهرب بشكل واسع إلى الجانب الآخر من المعبر الحدودي إلى أن تصل إلى مركز منطقة وزيرستان، وتتضمن البضائع المهربة إلى خارج البلد أثمانا ووسائل عديدة بما فيها الأحجار الكريمة، وسيارات الدفع الرباعي الخاصة بالشرطة الأفغانية وغيرها من الوسائل. وفق تصريح الشهود، يتم تهريب هذه السيارات تحت مسمى الخردة وقطع الحديد ولأجل تهريبها يأخذ كل من المسؤولين الأمنيين والقوات الحدودية حظوظهم من رسوم تهريبها. على سبيل المثال، لقائد القوات الحدودية سهم شهري قدره عشرون ألف دولار؛ أما مسؤولو الجمارك فإنهم يفحصون البضائع في مستودعات التخزين ويأخذون حظوظهم وفق نوع البضاعة ووزنها، فمثلا، تتراوح القيمة التي يأخذونها مقابل كل سيارة بين 50 ألف و 300 ألف روبية باكستانية، وبالطريقة ذاتها يتم تهريب البضائع المحظورة قانونيا إلى خارج البلد.

كما أن سائقي السيارات الصغيرة المحملة بالبضائع لا يُطالبون بدفع رسوم جمركية ولا يُمنحون وثائق رسمية ومن ثم لا يصل من ضرائب بضائعهم شيء إلى خزانة الحكومة، وإنما يدفع السائق قدرا من المال لموظف الجمارك ومن ثم يوقع الموظف على يد السائق حتى يعلم عساكر نقطة الخروج بأن السائق قد دفع المال فيسمحون له بالخروج. وبالصورة ذاتها يتم تهريب شاحنات نقل الخشب إلى الجانب الآخر من المعبر الحدودي دون منح أوراق رسمية، مقابل مقادير معينة من المال  (في الغالب يُدفع مبلغ 2000 روبية باكستانية لكل سيارة نقل).

توجد موانع هناك تحول دون تنصيب الماسحات الضوئية كذلك. على سبيل المثال، من تاريخ 20/يونيو إلى تاريخ 3/يوليو تم إغلاق الطرق حيث خالفت إحدى الجماعات الباكستانية القاطنة هناك قرار تنصيب الماسحات الضوئية. وعلى الجانب المقابل، كل سيارة تأتي من الجانب الآخر من المعبر يُسمح لها بالتوقف على أرض أفغانستان دون أسباب موجهة ومع الغروب يُسمح لها بالخروج حتى تصل إلى جمارك مديرية أرغون في وقت متأخر وتعبر المعبر بدفع مبالغ غير قانونية.

أسباب الفساد في إدارات الجمارك

ملايين النقود من إيرادات البلد التي يُفترض جمعها وتخزينها في مخازن الدولة تتدفق يوميا بشكل منتظم إلى جيوب موظفي الجمارك والمسؤولين المحليين وأُجراء التخليص الجمركي. على سبيل المثال فقد أدى وجود أُجراء التخليص الجمركي المدعومين من قِبل المسلحين غير المسؤولين وذوي النفوذ المحليين إلى عبور بضائع تجارية أحيانا دون تخليصها جمركيا وذلك عبر تهديد موظفي الجمارك وتخويفهم، كما يتم أحيانا تزوير وثائق للبضائع النفيسة حتى يتم تخليصها من الجمارك بدفع ضرائبها على أنها بضائع زهيدة الثمن. وفق البيانات فإن شاحنة محملة بالبضائع الثمينة قد تبلغ ضريبتها الجمركية مليونا إلى عشرة ملايين أفغاني، ولكن بسبب الفساد لا يصل إلى خزانة الضرائب الحكومية إلا ما يُقدر بـ 80 ألف إلى 250 ألف أفغاني.

قد بلغ عدد أُجراء التخليص الجمركي للبضائع التجارية في جميع إدارات الجمارك بأفغانستان عدد 565 شخصا؛ إلا أن وجود هذا العدد من الأُجراء قد مهد الطرق للفساد العريض ولذا تم تعديل المواد رقم (17، 18، 19) بقانون الجمارك من قِبل مجلس الوزارء الشهر الماضي وتم إلغاء عملية  انتداب أو تكليف الأجراء في التخليص الجمركي. مع أنه قد كان من المفترض أن تتم هذه الخطوة قبل سنوات، إلا أن تفعيل نظام التخليص الجمركي الإلكتروني خطوة جيدة حيث يُمنح التجار معرّفات في نظام (asycuda) ويُخلصون بضائعهم من الجمارك دون الحاجة إلى تكليف أجُراء. ومع ذلك فإن هذه الخطوة ستكون مفيدة في منع دفع الرشاوي ومكافحة الفساد والنزاهة في جمع الإيرادات وتسهيل الأعمال الإدارية بالجمارك إذا تم تطبيق النظام المذكور على الوجه المطلوب.

التحدي الآخر الذي زاد من صعوبة مكافحة الفساد في الجمارك هو عدم وجود أنظمة مناسبة للمراقبة. كثيرا ما شكلت الحكومة لجانا للتحقيق في قضايا الفساد المتعلقة بالجمارك إلا أن هذه اللجان اتُّهمت فيما بعد بضلوعها في الفساد. على سبيل المثال، تم تشكيل لجنة من نواب مجلس الشيوخ الأفغاني في شهر ديسمبر/2020م وكُلفوا بالذهاب إلى معبر حيرتان بولاية بلخ وتقييم الإيرادات الجمركية، إلا أن ثلاثة من هؤلاء النواب اعتُقلوا لأجل أخذهم رشوة قدرها 40 ألف دولار أمريكي، حسب تصريح الجهات الأمنية. ومع أن المركز القضائي لمكافحة جرائم الفساد قد اتهم المذكورين في محكمته الأولى وحكم عليهم بالسجن عشر سنوات وشهرا، إلا أنه تم إطلاق سراحهم بتقديم ضمانات.

التحدي الأكبر الذي مهّد السبل للفساد في الجمارك هو المتاجرة بالمناصب والوظائف الحكومية بالجمارك. إن الموظفين في قطاع الجمارك سواء كانوا مسؤولين أمنيين أو موظفين عاديين أو مدراء رفيعي المستوى يبدؤون عملهم في هذا القطاع بعد دفع رشاوي تُقدر بالآلاف ومئات الآلاف من الدولارات، كما أن الجمارك لم تعد مكانا للكثيرين ممن لا يقدرون على دفع الرشاوي ولا يعرفون وسائط تخولهم للبقاء في مناصبهم. وفي السياق ذاته هناك وثائق تدل على أن نحو نصف الموظفين في الجمارك قد تم تعيينهم بشكل قسري من قِبل وكلاء البرلمان وغيرهم من المسؤولين وذوي النفوذ.

المتاجرة بالوظائف الحكومية ظاهرة لم تزل موجودة منذ العقدين الماضيين. إدارة مراقبة النزاهة في أفغانستان قد أعلنت سابقا في تقريرها المنشور عام 2007م أن المتاجرة بالوظائف أكبر عامل من عوامل الفساد في البلد. بالإضافة إلى ذلك فقد نشرت وكالات الأنباء الأفغانية تقارير تفيد أن الوظائف الحكومية تُباع في أفغانستان. على سبيل المثال لوحظ أن منصب مدرس عادي في المدرسة قد بيع بسعر بلغ 80 ألف أفغاني. الجمارك هي الإدارة التي يُنظر إليها باعتبارها مصدرا للإيرادات الضخمة ولذا فإن ترتيبها من ناحية بيع المناصب الحكومية هو الأول. إن المتاجرة بالمناصب ظاهرة موجودة على أعلى المستويات وأوسطها وأدناها، وهذه المتاجرة هي التي تُلجئ الموظف الذي اشترى منصباً وظيفيا إلى الضلوع في الفساد بعد توظيفه؛ حتى يحصل من خلال الفساد على المبالغ التي أنفقها في سبيل توظيفه.

دور المسؤولين الحكوميين وذوي النفوذ

ذكر تقرير صدر خلال العام الماضي من اللجنة المستقلة لمراقبة وتقييم مكافحة الفساد في أفغانستان،أن تدخلات وضغوط ذوي النفوذ وأعضاء البرلمان والمسؤولين الحكوميين على إدارات الجمارك والإيرادات بوزارة المالية تُعد السبب الرئيسي للفساد في هذا القطاع. وكثيرا ما حصل أن وقع موظفوا الجمارك العاديون مستندات غير قانونية تحت تهديد ذوي النفوذ، وقد اشتكى وزير المالية المكلف محمد خالد باينده من هذا الأمر في جلسة استجوابه بالبرلمان حيث قال: “مع الأسف، أحيانا يقوم رؤساء المحافظات – الولاة – ورؤساء القطاعات الأمنية والجنرالات المفوضون وكل من يملك سلطة بأخذ حصصهم من رشاوي الجمارك”.

إن جهود الحكومة الساعية لمنع الفساد في إدارات الجمارك لم تكن مؤثرة في معظم الحالات كما أن لم تُنجز خطوات عملية كفيلة باستئصال هذه الظاهرة، بل قد رُصدت حالات تُعين على زيادة الفساد في القطاع المذكور بدلا عن إضعافه وإزالته، وقد شوهد أنّ بعض من تورطوا في قضايا الفساد قد وُظفوا مجددا في مناصبهم بدل أن يُنفذ عليهم قانون الجرائم. بل إن بعض الموظفين المتهمين بالفساد حين تُقام عليهم التهمة يدفعون رشاوي أو يتم طلب تبرئتهم من خلال الوساطات ومن ثم يوظفون في الجمارك أو في إدارة حكومية أخرى قبل تصفية ملفاتهم الإجرامية في الجهاز القضائي. وهذا الأمر يُجرّئ الضالعين في الفساد بالجمارك على المزيد من أعمال النصب والاحتيال.

قبل مدة احتد ملف مصادرة الأموال بصورة غير قانونية في طرق المحافظات من قِبل أفراد الشرطة وغيرهم من المسلحين غير المسؤولين مما حدا بسائقي شاحنات النقل إلى الإضراب عن العمل. وفق تصريح هؤلاء السائقين يقوم أفراد الشرطة بطلب الأموال غير القانونية من شاحنات نقل البضائع التجارية وفي حال امتناع السائقين عن الدفع يتم تهديدهم أو قتلهم. مع أن الحكومة قد أعلنت عن اتخاذ خطوات لحل هذا الأمر وانتهاء إضراب سائقي الشاحنات، إلا أن الحالة خلال أيام قد عادت إلى سابق وضعها السيء وتم قتل بعض سائقي الشاحنات من قِبل الشرطة. وقد حدا هذا الأمر بالتجار إلى دفع الأموال غير القانونية لتجنب إيقاف بضائعهم وإفسادها في الطرق كما ألجأهم ذلك لدفع مبالغ غير قانونية لموظفي الجمارك لتسريع عبور بضائعهم من المعابر الحدودية.

في كثير من الأحيان أدت الاختلافات السياسية الداخلية بالحكومة والتدخلات في شؤون الجمارك إلى ارتفاع معدل الفساد في هذا القطاع. في يناير/2021م اتهم القصر الرئاسي الأفغاني وزارة المالية الأفغانية بتوظيف عدد من الموظفين بصورة مخالفة للقانون كما تم إصدار توجيه للوزارة بإقالة 138 موظفا من أعمالهم. وقد بلغ الخلاف بين الجانبين إلى حد تبديل قيادة وزارة المالية، حيث إن الرئيس الأفغاني أقال وزير المالية من منصبه مع أن الأخير حصل على أصوات كافية من مجلس الشعب لاعتماده وتنصيبه وزيرا. وفق التقارير المنشورة أمر رئيس الجمهورية بإقالة 60 موظفا في وزارة المالية من مناصبهم وأمر بتقديم ملفاتهم للنيابة العامة، إلا أن ذلك لم يحصل واستمر الموظفون المذكورون في وظائفهم بالوزارة.

بالإضافة إلى ما ذُكر، السبب الآخر الذي أدى إلى ارتفاع معدل الفساد بإدارات أفغانستان هو تدخل الجهات الأجنبية. منذ عام 2001م صُرفت مبالغ لدعم أفغانستان وقد تم صرف جزء كبير من هذه المبالغ من قِبل الأجانب أنفسهم والإدارات العاملة في القطاع الإغاثي، ولم يتدفق من تلك المبالغ إلى ميزانية البلد إلى الجزء اليسير. على سبيل المثال قدمت الدول الداعمة من عام 2002م إلى عام 2009م لأفغانستان مبلغ 3.6 مليار دولار، ولم تنفق الحكومة من هذه المبالغ إلا نسبة 23% فقط. إن قيام الدول الأجنبية بإنفاق مبالغ الدعم بنفسها ومنحها عقود المشاريع لأقرباء ومعارف كبار المسؤولين الحكوميين الأفغان قد فتح أبوابا مشرعة للفساد. الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي خلال مدة رئاسته اتهم الدول الأجنبية عدة مرات بالضلوع في الفساد وتقويته، لدرجة أن علت على السطح قضية ضلوع أخي كرزاي في الفساد وقام الرئيس حينها باتهام الأجانب كذلك. وقد صرح أحد المحاسبين الأمريكيين الذي عملوا بأفغانستان بأنه كان له دور في تقييم عقود مشاريع بقدر 106 مليار دولار، وقد أسفر التقييم عن نتائج تفيد أن أكثر من نسبة 40% من مبالغ هذه المشاريع صُرفت وُضيّعت في غير وجوه الدعم أو تدفقت إلى جيوب عصابات المافيا والمسؤولين الفاسدين بالحكومة الأفغانية.

آثار الفساد بالجمارك

وفق المادة رقم 42 من الدستور الأفغاني؛ يجب على كل مواطن أفغاني أن يدفع الضرائب للدولة وفق القانون، كما أن الضرائب ومبالغ التخليص الجمركي تُحول إلى حساب الدولة الوحيد المخصص لجمع الإيرادات. ولكن بسبب الفساد كثيرا ما يتم عبور البضائع دون دفع ضرائبها الجمركية أو يتم دفعها وتتدفق من ثم إلى جيوب المسؤولين الفاسدين بدلا من أن تُخزن في خزانة الدولة. وبهذه الصورة تضيع مليارات الدولارات من إيرادات البلد سنويا؛ في حين أن البلد يمر بوضع اقتصادي متأزم يهدد استمرار عمل الحكومة من الناحية الاقتصادية ما لم تتلق الحكومة دعما من الأجانب.

إن ميزانية أفغانستان السنوية تبلغ نحو 4 إلى 5 مليارات دولار، في حين أن النتائج الأخيرة تُظهر تبدد نحو 2.5 مليار دولار سنويا نتيجة الفساد في قطاع الجمارك لوحده مما يُشكل قريبا من نصف الميزانية. لذا، ما زالت الحكومة تعتمد في أكثر من نسبة 50% من ميزانيتها السنوية على المساعدات الأجنبية. الميزانية السنوية بأفغانستان خلال العام الهجري الشمسي الحالي (1400هـ شـ) بلغت 473 مليار أفغاني، حيث إن مبلغ 311 مليارا منها هي الميزانية الاعتيادية كما أن مبلغ 161 مليارا هي الميزانية التنموية. يتم تمويل نسبة 45.8 من الميزانية السنوية من إيرادات البلد الداخلية؛ كما أن بقية الميزانية تُمول من المساعدات الأجنبية.

إن تبديد إيرادات البلد في الإدارات الجمركية والفساد الإداري والمالي بشكل عام في أفغانستان يُشكلان قدرا كبيرا من الفساد في البلد كما يلعبان دورا في بقاء أفغانستان ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم. منظمة النزاهة الدولية تدرج أفغانستان سنويا ضمن الدول الأكثر ضلوعا في الفساد على مستوى العالم. إن الفساد الإداري والمالي بجمارك أفغانستان قد رفعت معدل الفساد في البلد كما خلقت تحديات أمام استقطاب الدعم الأجنبي للبلد، وذلك لأن الدول الداعمة دائما ما أناطت تقديمها للدعم بتقليل معدل الفساد.

إن الفساد الإداري العريض بالجمارك والتحديات الأخرى فيها قد زادت من الفجوة بين الحكومة والشعب كما عززت جو عدم الثقة بينهما. وفق نتائج استطلاع قامت به إدارة مراقبة النزاهة في أفغانستان عام 2018م، ترى نسبة 43% من الشعب الأفغاني أن المواطنين ينضمون إلى طالبان بسبب الفساد، كما أن نسبة 62% من المستجوبين ذكروا أن الفساد الإداري والمالي العريض في الحكومة سبب مهم من أسباب زيادة نفوذ حركة طالبان وسلطتها.

من جانب آخر، قد أضر ازدياد معدل الفساد في الجمارك بالإنتاج الداخلي. رغم التحديات الأمنية وانعدام الكهرباء ومشاكل عديدة أخرى تتم بعض الاستثمارات في مجال الإنتاج الداخلي، ولكن في المقابل يتم استيراد بضائع من الخارج إما بالتهريب وإما بإدخال البضائع دون دفع مبالغ التخليص الجمركي مما يجعل أسعار المنتجات الداخلية أغلى من غيرها ولذا لا يتم بيع هذه المنتجات بنجاح. نتيجة لذلك؛ يؤدي الفساد بإدارات الجمارك إلى عدم تدفق الإيرادات إلى خزانة الدولة كما أنه يخلق تحديات أمام مبادرات الاستثمار في الداخل.

كيف يمكن تقليل معدل الفساد في الجمارك؟

أول ما يُحتاج إليه في سبيل مكافحة الفساد الإداري وخصوصا ما يُشاهد من فساد في إدارات الجمارك والإيرادات هو حيازة إرادة سياسية حازمة. إن المعلومات حيال تبدد ملايين الدولارات في الجمارك تفيد أن معرفة مصادر وموارد الفساد المذكور أمر ميسور لوزارة المالية. في العاشر من شهر يونيو الماضي أشار وزير المالية المكلف خالد باينده إلى انخفاض معدل الفساد في المعابر وصرح بأن متوسط الإيرادات اليومي من الجمارك يبلغ حاليا 330 مليون أفغاني، إلا أن هذا المبلغ قبل ثلاثة أشهر كان في حدود 180 مليون أفغاني. إن هذه التصريحات تدل على أن رفع معدل الإيرادات بالجمارك أمر متيسر متى ما وُجدت العزيمة السياسية اللازمة لذلك.

إن الفساد الإداري مشكلة عالمية وتستخدم الدول شتى الطرق لمكافحة هذه الظاهرة. لأجل تقليل الفساد في إدارات الجمارك بأفغانستان هناك حاجة ماسة لتعديل أنظمة الجمارك وتحديثها. في عام 2004م وبمساعدة من البنك الدولي، تم البدء في إصلاح نظام الجمارك، وقد أدى هذا المشروع إلى رفع معدل الإيرادات من نحو 77 مليون دولار في الأعوام 2003-2004م لتصل إلى 900 مليون دولار في الأعوام 2009م-2010م. ومع حصول هذا التقدم، ما زالت هناك عوامل أخرى للفساد تحتاج لاتخاذ خطوات حازمة منها زعزعة الاستقرار السياسي، والتدهور الأمني، وعدم استغلال التقنية وأنظمة المراقبة بالشكل المطلوب وغيرها.

قد أدت بعض الجهود المبذولة خلال الأعوام المضاية إلى تطوير وإصلاح بعض الأنظمة في الجمارك. من ذلك مشروع الإدارة الرشيدة للجمارك وتسهيل خدمات التجارة والذي تم تنفيذه منذ عام 2003 إلى 2009م بتمويل من المساعدات الدولية، حيث أحدث تعديلات وتطويرات هامة في نظام الجمارك، من ذلك أن حجم التجارة زاد من مليارَي دولار إلى 8 مليارات دولار، كما أن الإيراد الجمركي زاد من 50 مليون دولار أمريكي إلى 400 مليون دولار أمريكي. لذا هناك حاجة ماسة للاهتمام بشؤون الجمارك وتطبيق أحدث الأنظمة التي من شأنها رفع الكفاءة الاقتصادية للمعابر الحدودية.

برمجة أنظمة الجمارك وربطها بالشبكة العنكبوتية، وتطوير إجراءات الجمارك وتنصيب الكاميرات والماسحات الضوئية وإنشاء البنية الحديثة الملائمة وبعض الإجراءات الأخرى أمور تلعب دورا هاما في منع الفساد. مع أن الحكومة الأفغانية منذ 13 عاما تخصص مليارات النقود من ميزانية البلد السنوية لتطوير وتجهيز إدارات الجمارك، حيث تم تخصيص 2.7 مليار أفغاني من ميزانية العام الجاري (1400هـ شـ) لذلك؛ إلا أن عامة إدارات الجمارك ما زالت تفتقد إلى الماسحات الضوئية والأجهزة الحديثة والإمكانيات، وهذا من جانب يساعد على رفع معدل الفساد كما أنه من جانب آخر يتسبب في إفساد بضائع التجار. على سبيل المثال، بدلا من أن يتم بناء بنية تحتية في معبر إسلام قلعة بمحافظة هرات لمنع هروب شاحنات النقل دون إكمال التخليص الجمركي، تم حفر خندق كبير لهذا الغرض، وفي فبراير/2021م حين اندلعت النيران في بالمعبر جُرح ستون شخصا كما خسر التجارة بضائع قُدرت بمئة مليون دولار وقد زادت أسعار البضائع في السوق بعدها بنسبة 15%. في ذلك الحدث تسبب وجود الخندق غير الفني في تعذر إنقاذ الشاحنات من الحريق كما لم تكن وسائل إطفاء النيران موجودة.

إن نظام ASYCUDA أو ما يُعرف بالنظام الآلي لبيانات الجمارك قد جُرب في العقود الثلاث الماضية في أكثر من 100 دولة وقد تسبب في تسهيل إجراءات الجمارك كما عزز النزاهة في عملية التخليص الجمركي وحصد الإيرادات. إن لتفعيل النظام المذكور دور مؤثر في نزاهة جمع الإيرادات، وتقليص مدة التخليص الجمركي، وضبط ومراقبة شحنات الحاويات، ومكافحة الفساد. بدأ تفعيل نظام (أسيكودا) في أفغانستان منذ أكتوبر/2011م وتم إكمال مشروع تفعيله عام 2015م. بعد تفعيل النظام المذكور حصلت زيادة ملحوظة في جمع الإيرادات كما تم تسهيل وتبسيط عملية التخليص الجمركي. على سبيل المثال، كانت الشاحانات تنتظر في معبر طورخم الحدودي 18 ساعة والآن يتم تخليصها جمركيا خلال 90 دقيقة. ولكن مع ذلك لم يتم تفعيل هذا النظام في جميع المعابر بالصورة المطلوبة، ونظرا لضعف أنظمة الضبط الداخلية بالمعابر لا يتم إدخال البيانات الدقيقة إلى النظام ولذا ما زال معدل الفساد في إدارات الجمارك مرتفعا. وإذا بُذل اهتمام لسد النقص والخلل في أنظمة الضبط الداخلية بالمعابر وحُلت مشاكلها الفنية فستحصل زيادة في معدل الإيرادات كما أن ذلك سيحول دون استمرار الفساد الإداري والمالي بالمعابر.

التوصيات:

هناك حاجة ماسة لاتخاذ خطوات تحول دون استمرار الفساد بإدارات الجمارك، نشير هنا إلى بعض منها:

  • أولا، إن الفساد في إدارات الجمارك مكوّن هام من مكونات الفساد الإداري العام في البلد. لذا فإن الالتزام الحقيقي من الحكومة الأفغانية وإرادتها السياسية الحازمة في مجال مكافحة الفساد بشكل عام كفيل بتقليل معدل الفساد في الجمارك.
  • حتى الآن، لم يتم اتخاذ خطوات حازمة لمنع الفساد الإداري والمالي بالجمارك. لذا؛ هناك حاجة ماسة لتطبيق خطط قصيرة المدى وطويلة المدى لمكافحة الفساد بالجمارك.
  • من موارد الفساد الهامة بالجمارك المتاجرة بالمناصب الحكومية فيها وخصوصا موظفي الجمارك رفيعي المستوى والموظفين الاعتياديين، حيث يلجأ هؤلاء الموظفون إلى الضلوع في الفساد لاسترجاع ما صرفوه من أموال للحصول على الوظيفة. لذا من الضروري جدا أن يتم توظيف موظفي الجمارك عبر عملية نزيهة وشفافة، مع تسليم من يتاجرون بهذه المناصب إلى قبضة القانون.
  • ينبغي إيقاف تدخل المسؤولين الحكوميين وذوي النفوذ في عملية توظيف موظفي الجمارك، كما ينبغي إطلاع الشعب على أسماء الأشخاص الذين يستغلون مناصبهم ومواقفهم لتوظيف من يشاؤون في الجمارك بصورة غير قانونية.
  • ينبغي تأسيس لجنة مستقلة ذات صلاحيات لتسجيل الشكاوي المتعلقة بالفساد الإداري والمالي بالجمارك مع إنشاء نظام اتصال مركزي حتى تسجل هذه اللجنة وقائع الفساد في الجمارك وتقوم بتعقبها والتحقيق فيها. كما ينبغي نشر الوعي بين التجار وعامة المواطنين حول نظام الشكاوي المذكور حتى يبادروا إلى تسجيل شكاويهم حين يواجهون نوعا من أنواع الفساد في المعابر.
  • ينبغي اتخاذ خطوات مؤثرة لزيادة الدقة والنزاهة في جمع البيانات والإحصائيات، وينبغي كذلك من خلال الإدارات الإحصائية أن تُطور وتُحسن عملية تسجيل التصديرات والمُستوردات ويُعزز التنسيق بين إدارة الإحصاء وإدارات الجمارك حتى تُتاح المقارنة بين الأرقام المسجلة والإيرادات المُستحصلة ويُتجنب إهدار الإيرادات المالية.
  • ينبغي تطوير نظام الإشراف والمراقبة كما ينبغي اتخاذ خطوات مؤثرة لتطوير أنظمة الضبط الداخلية. وفي السياق ذاته ينبغي تفعيل الأجهزة التقنية اللازمة لمراقبة مرافق الإدارات الجمركية خارج أوقات العمل.
  • ينبغي الاقتصار على الصيغة الرقمية للتراخيص والتعرفات الجمركية والوثائق الأخرى المتعلقة بها، وإزالة نظام التسجيل الورقي.
  • من الضرروي تجهيز الإدارات الجمركية بالبنية التحتية اللازمة، مما ييسر الحفاظ على البضائع التجارية ويساعد على منع الفساد في الجمارك.
  • ينبغي ضبط كل من يساعد على وصول البضائع إلى السوق دون تخليصها جمركيا، وتسليمه إلى قبضة القانون.
  • ينبغي تمهيد السبل أمام المؤسسات والمراكز البحثية الحكومية والأهلية لتقوم بدراسة الفساد في الجمارك وأسبابه وطرق مواجهته؛ ومن ثم يتم إصلاح سياسات مكافحة الفساد في ضوء ما تُسفر عنه هذه الدراسات.

النهاية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *