التعامل المهين لأمريكا مع حلفائها أثناء الانسحاب من أفغانستان

مقدمة

من المُزمع أن تكتمل عملية خروج القوات الأجنبية من أفغانستان في الحادي عشر من سبتمبر المقبل وينتهي رسميا عندها الحضور العسكري الأجنبي في أفغانستان. إن الخروج الكامل للقوات الأجنبية من أفغانستان سيؤثر بالطبع على الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في البلد. ونظرا للقلق من آثار الخروج المذكور لم يكن للحكومة والشعب الأفغاني اهتمام وتفاعل على المستوى المطلوب مع قضية تسليم المنشآت والأجهزة للشعب الأفغاني.

بدأت عملية خروج القوات الأجنبية من أفغانستان عام 2011م بتسليم المسؤولية الأمنية للقوات الأفغانية في محافظات باميان ولغمان وعدد من الولايات الأخرى، واستمرت العملية إلى أن خُولت القوات الأفغانية مسؤولية الحفاظ على أمن جميع المحافظات في عام 2014. في تلك الفترة لوحظ أن القوات الأجنبية كانت تُفسد منشآتها وأجهزتها عند تخليتها لقواعدها العسكرية ثم تسلمها بعد ذلك للقوات الأفغانية. وبما أن القوات الأجنبية لم تكن تخرج بالكامل من أفغانستان في تلك الفترة فإن تسليمها المسؤولية الأمنية للقوات الأفغانية لم يخلف الآثار العميقة التي شوهدت عقب الخروج الكامل للقوات الأجنبية في الأشهر الأخيرة. ومن هذا المنطلق أبدت الحكومة الأفغانية عام 2013م موقفها حيال إفساد المنشآت والأجهزة العسكرية من قِبل القوات الأجنبية وأبرزت مخاوفها للقوات الائتلافية عبر مجلس الأمن الوطني الأفغاني.

وبعد ثماني سنوات حين تم الإعلان عن الخروج الكامل للقوات الأجنبية – القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو – من أفغانستان تكررت الحالة المذكورة وقامت القوات الأجنبية حين خروجها بإفساد منشآتها وأجهزتها العسكرية قبل تسليمها للقوات الأفغانية.

في الوقت ذاته قد تؤيد بعض الجهات قرار إفساد هذه المنشآت والأجهزة التي خلّفتها القوات الأجنبية في أفغانستان، إلا أنه لا ينبغي إغفال أهمية تلك المنشآت في تعزيز القوات العسكرية الأفغانية وتنمية الاقتصاد بشكل عام بعد استقرار السلام؛ كما لا ينبغي أن يُنظر لهذا الأمر بمنظار قصير المدى.

في هذه المقالة سنتطرق إلى كيفية إفساد المنشآت والأجهزة العسكرية من قِبل القوات الأجنبية وأسباب ذلك والمقارنة بين خروج القوات السوفييتية في السابق وخروج القوات الأمريكية وقوات الناتو في المرحلة الراهنة.

إفساد المنشآت والأجهزة

إن تصرف القوات الأجنبية تجاه منشآتها العسكرية وأجهزتها التي خلفتها في قواعدها لفت في كثير من الأحيان أنظار الشعب الأفغاني، حيث تقوم القوات الأجنبية بإخراج معداتها باهظة الثمن؛ وتفسد المعدات العادية الأخرى بدل أن تُسلمها للجانب الأفغاني، أما المنشآت الغير قابلة للهدم فإنها تُحول إلى قطع فلزية وتُترك للباعة المحليين.

نذكر على سبيل المثال قاعدة (شورابك) العسكرية أو مخيم “بوسطن” الذي كان خلال العقدين الماضيين أكبر قاعدة عسكرية للقوات الأجنبية جنوبي أفغانستان حيث استقرت به القوات الأمريكية والبريطانية. ومع خروج القوات الأجنبية من هذه القاعدة بالكامل تبدل هذا المكان إلى ميدان فارغ تقريبا. الفيلم الوثائقي الذي نُشر في شهر مايو من هذا العام يُظهر أن القوات الأجنبية قامت بإتلاف المعدات والأجهزة التي يتعذر حملها خارج البلد وضمها إلى القطع الفلزية لتُباع بعدها في السوق السوداء المحلية.

كما يُظهر الفيلم إتلاف المنشآت والحواجز العسكرية داخل القاعدة وتقوم السيارات غير العسكرية بإتلاف الأسلاك الكهربائية وكافة المعدات وتحولها إلى وسائل عديمة النفع. يظهر في الفيلم قائد عسكري أفغاني وعدد من عناصر الجيش الأفغاني وهم في حالة اندهاش مما يرونه، حيث يقول أحدهم: لو استطاع هؤلاء أن يحملوا الجدران الخرسانية معهم لفعلوا. أما من يُباشرون إتلاف المنشآت والمعدات فإنهم يُظهرون عدم علمهم بالهدف من هذا الإتلاف ويقولون إنهم قد أُمروا بإتلافهما من السلطات العسكرية العليا.

تضمنت الاتفاقية الأمنية الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأفغانستان التزاما سطحيا من الجانب الأمريكي بتسليم المعدات والأجهزة لأفغانستان في حال سحب قواتها من البلد. مع أن الاتفاقية قد أُعدت على نحو ينفي أي التزام في الجانب الأمريكي إلا أنه قد ذُكر فيها موضوع تسليم المنشآت والمعدات للجانب الأفغاني. الفقرة الأولى من المادة الثامنة بالاتفاقية الأمنية الموقعة عام 2014م بين أفغانستان والولايات المتحدة الأمريكية تنص على التالي: “ستسلّم الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان جميع المنشآت والأماكن المشتملة على العمارات والمباني والأجزاء الثابتة التي قامت هذه القوات بإنشائها أو تعديلها أو ترميمها في حال استغناء القوات عنها”. إلا أن ما حدث في الأشهر الأخيرة يضاد ذلك حيث تم إتلاف معظم المنشآت والمعدات العسكرية من قِبل القوات الأجنبية.

لقد تكرر هذا الحدث في كافة القواعد العسكرية الأمريكية بأفغانستان بما فيها قاعدة بجرام العسكرية. وفق تصريحات السكان المحليين بتلك المنطقة كانت تُنقل مئات المعدات الأمريكية من القاعدة إلى باكستان يوميا؛ ولم يُخلّف في هذا المقر العسكري سوى منشآت مُتلفة. حتى لم يعد واضحا ما إذا كانت هذه المعدات ستُنقل إلى الدولة المصدرة الأولى (أمريكا) أو أنها ستُقدم إلى دولة ثالثة مثل باكستان.

مع أنه قد سُلمت للحكومة الأفغانية العديد من الأجهزة زهيدة الثمن وغير العسكرية مثل مولدات الكهرباء إلا أن ذلك لا يُقاس بالنسبة إلى ما أُتلف أو نُقل إلى خارج البلد.

يرى بعض المحللين أن التزامات الجانب الأمريكي بدعم أفغانستان قائمة على خداع العامة؛ حيث يدل إتلاف المنشآت والمعدات العسكرية على أن الولايات المتحدة لا ترغب أبدا في أن يُجهّز الأفغان بمثل هذه المعدات والمنشآت.

نظرة في الميراث السوفييتي والأمريكي في أفغانستان

إن الإتلاف الكلي للمنشآت والمعدات العسكرية وغير العسكرية من قِبل القوات الأجنبية والخروج الكامل للقوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان يُذكّر الجميع بخروج القوات السوفييتية من أفغانستان في تسعينات القرن الماضي. في تلك الحقبة سلّمت القوات السوفييتية – بخلاف صنيع القوات الأمريكية – كافة قواعدها بما فيها من منشآت ومعدات للدولة التي كانت ترعاها وخلّفت تجهيزات عسكرية بلغت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.

تفيد بعض الوثائق والمستندات أن القوات الشيوعية خلّفت لأفغانستان حين خروجها أكثر من 2500 دبابة، ونحو 500 طائرة حربية وطائرة نقل، وأكثر من 5000 مركبة عسكرية. مع أن عددا كبيرا من هذه المعدات قد أُتلف خلال الحروب الأهلية أو هُرّبت للخارج، إلا أن تلك المعدات كانت ستشكل ثروة كبيرة للبلد إذا حظي بالأمن والاستقرار.

تفيد بعض الدراسات أن الميراث العسكري الذي خلفته الشيوعية لأفغانستان حوّل الجهاز العسكري في البلد إلى قوة عسكرية مشهودة في المنطقة، حيث تركت القوات السوفييتية لأفغانسان في المنطقة المُدرّعة نحواً من 400 إلى 600 دبابة من نوع (تي 55)، ونحو مئة دبابة حديثة من نوع (تي 62 إم) المُجهزة بجهاز إطلاق حاسوبي ومتحسسات مسافة ضوئية، بالإضافة إلى مئات المعدات والمنشآت العسكرية الأخرى.

بعد خروج القوات الشيوعية حازت أفغانستان مئات الطائرات والمروحيات العسكرية. على سبيل المثال طائرات (MiG 21) النفاثة، وقاذفات سوخو، وطائرات أنتونوف، ونحو 155 مروحية عسكرية من نوع (میل- 14)، وعشرات المروحیات العسكرية التي سُلمت مرة أخرى لأفغانستان. لقد تطورت حينها القوات الجوية الأفغانية إلى حد ملحوظ كما جُهّز البلد بمضادات للهجمات الجوية مزودة بالرادار والمعدات الحديثة.

من جانبٍ آخر إذا ألقينا نظرة على العقدين الماضيين سنلحظ أن القوات الأمريكية وقوات الناتو قدمت دعما كبيرا للقوات الأفغانية على الأوراق إلا أن ذلك الدعم في الواقع المُشاهد لا يُشكل قوة ذات وزن في المنطقة، حيث يتشكل العمود الفقري للقوات الجوية الأفغانية حاليا من نحو 40 طائرة توربينية من نوع Super Tucano 29 التي لا تقوى على المواجهة العسكرية أمام الهجمات الجوية. هذه الطائرات بسبب قلة مصاريفها ودنو ثمن قطعها تناسب الدول الفقيرة مثل أفغانستان. قدمت الولايات المتحدة الأمريكية عددا من طائرات الشحن من نوع C5 إلا أنها فُككت وبيعت قطعها في سوق الخردة. تنشط حاليا مروحيات معدودة في الجيش الأفغاني ومن المُزمع تزويد البلد بعدد من المروحيات إلا أنه لا يُعلم موعد تسليمها بشكل يقيني.  بشكل عام، لا يمكن المقارنة بأي وجه بين القوات الجوية الأفغانية الحالية والقوات الجوية التي تركتها القوات الشيوعية في أفغانستان؛ حيث إن القوات الجوية الحالية أضعف وأدنى بمراتب.

هناك فارق كبير بين ميراث الاتحاد السوفييتي السابق وميراث القوات الأمريكية في أفغانستان وما ذكرناه هنا يُمثل جزءا منه فقط؛ حيث لن تفي مقالة مختصرة بتفاصيل هذا التفاوت. بصورة مُجملة إذا نظرنا في الميراث العسكري الذي خلّفه كل من الاتحاد السوفييتي والقوات الأمريكية سنجد أن الجيش الأفغاني بعد خروج القوات الشيوعية قد تبدل إلى قوة عسكرية مُجهزة؛ إلا أن الجيش الأفغاني في الفترة الحالية عقب خروج القوات الأمريكية يقبع في حالة من الضعف لا تخوله لمجابهة المخاطر الأمنية الخارجية وأقصى ما يمكن أن يفعله هو مواجهة الجماعات المسلحة الداخلية دون إمداد مُدرّع ودون أنظمة دفاعية مؤثرة.

أسباب إتلاف المنشآت

إن السبب الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية لإتلاف منشآتها ومعداتها العسكرية في أفغانستان والسبب الذي دفع القوات السوفييتية لتجهيز الجيش الأفغاني يرجع إلى سياسات هذين البلدين (أمريكا وروسيا الشيوعية). بشكل عام كان الاتحاد السوفييتي يدعم ويُجهّز جيوش الدول التي يرعاها إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لم تتخذ هذه المنهجية ضمن سياساتها.

في عام 2013م أعلنت قوات الائتلاف أن السبب من وراء إتلاف المنشآت العسكرية هو عدم وجود الكفاءة اللازمة للمحافظة على تلك المنشآت والمعدات. في تلك الفترة أيضا عدّت الحكومة الأفغانية هذه الذريعة أمرا مُقلقا وحجة غير منطقية، ولكن مع افتراض صحة هذه الذريعة فالسؤال المطروح حاليا هو لماذا لم يتم العمل على رفع كفاءة وقدرات الجيش الأفغاني خلال العقدين الماضيين ليصير قادرا على استخدام ورعاية تلك المنشآت والمعدات العسكرية رغم تتابع الدعم للجيش الأفغاني والالتزام المتكرر من القوات الأمريكية بتدريب القوات الأفغانية؟!

لعل من أبرز الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو عازفة عن ترك منشآتها ومعداتها للأفغان هو ما استفادته من الواقع الأفغاني عقب خروج القوات الشيوعية وذلك لأن المعدات والمنشآت المُخلفة من قوات الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قد بادت بالكامل، لذا قد تكون القوات الأمريكية امتنعت من تسليم معداتها للأفغان حتى لا تسقط تلك المعدات بيد أعدائهم. إن أمريكا مستحضرة أيضا للتجربة المرة التي خاضتها مع فيتنام الجنوبية وحكومتها التي دعمتها ثم لم تلبث أن هُزمت من قِبل جبهة الفيت كونغ ووقعت الذخائر والمعدات العسكرية بيد العدو الأول للقوات الأمريكية. إذا أمعنّا النظر في الوضع السياسي الحالي بأفغانستان سنجد أن الحكومة الحالية تواجه تحديات كبيرة كما أن الشعب يعيش حالة من الغموض ولا يمكنه التنبؤ بمستقبله؛ حيث إن المصالح الوطنية تروح ضحيةً للمصالح الشخصية التابعة لبعض القادة والحكام في البلد؛ كما أن الوضع الراهن قد زاد من احتمالية تكرار التجارب السابقة التي خاضتها أفغانستان.

بشكل عام تختلف سياسة الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها عن سياسة الاتحاد السوفييتي مع حلفائه. التاريخ المعاصر يشهد بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحفظ وفاءها مع أصدقائها وحلفائها الدوليين كما أنها نقضت ما أبرمته من التزامات في معظم الأحيان. ولهذا حين عارض الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قرار توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 2013، قال بأنه لا يعتمد على أمريكا، كما أضاف: “إذا قررت أمريكا أن تُخرج قواتها من أفغانستان، فلن تُجدي ألف اتفاقية أمنية في بقائهم، لأنهم سيخرجون. بعد سنوات الجهاد وانتصار المجاهدين في أفغانستان، حين تركت القوات الشيوعية البلدَ تركت أمريكا أفغانستان وحيدةً بشكل كامل كما أنهم أغلقوا سفاراتهم وخرجوا”. وفق تصريحه: “إذا لم تكن ثمة مصلحة لهم؛ لن يعتبروا لنا أي قيمة”.

النتيجة

إن إتلاف المنشآت والمعدات من قِبل القوات الأجنبية يدل أصالة على عدم الالتزام تجاه أفغانستان. إن الحضور العسكري الأجنبي خلال العقدين الماضيين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لم يقدر على إرساء الأمن والسلام في البلد. طيلة هذه السنوات لم تتضرر أفغانستان من تدخلات الدول المجاورة فحسب وإنما دخلت أفغانستان دوامة صراعات إقليمية ودولية خطرة. من المُزمع أن تخرج كافة القوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان خلال شهرٍ وقد التزمت الحكومة الأمريكية بإكمال دعمها المالي للقوات الأفغانية، إلا أن إتلاف المنشآت العسكرية يدل على أن هذه الدول لا تستشعر أدنى التزامٍ تجاه مستقبل البلد وسيأتي يوم يتركون فيه البلد وحيدا بالكامل وسيقفون متفرجين على الحروب الأهلية المندلعة داخل أفغانستان.

النهاية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *