المصالح والسياسات الأمريكية في أفغانستان والمنطقة بعد الانسحاب
اجمل جلال
مقدمة
قبل عشرين سنة اقتضت مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أن تقوم باجتياح أفغانستان وإنهاء حكم طالبان بالبلد وتأسيس حكومة جديدة في أفغانستان، وقد كان السبب في بدء ذلك الغزو الأمريكي لأفغانستان هو هجوم الحادي عشر من سبتمبر. ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن الحدث وتجب معاقبته. بعد عشرين سنة أنهت الولايات المتحدة الأمريكية حضورها في أفغانستان بذريعة أن أسامة بن لادن لم يعد على قيد الحياة وأن تنظيم طالبان قد وعد بقطع علائقه مع تنظيم القاعدة وما أشبهه من التنظيمات وتكفل بعدم السماح لأي أحد باستغلال أرض أفغانستان للإضرار بالدول الأخرى وخاصة أمريكا.
مع انتهاء البقاء العسكري الأمريكي بأفغانستان يُطرح سؤال حول مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بأفغانستان والمنطقة بعد سحب قواتها؛ وكيف ستسعى أمريكا لضمان تلك المصالح. إن هذا الاستفسار يؤكد بدلالة التضمن أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد سحب قواتها العسكرية ستسعى لحفظ مصالحها في أفغانستان ودول المنطقة، ولكن ما هي هذه المصالح؟ وأين تبدأ حدودها وأين تنتهي؟ وما هي الطرق والمنهجيات التي ستنتهجها الولايات المتحدة لمراقبة مصالحها؟ سنحاول قدر إمكاننا في هذه الورقة أن نقدم إجابات عن هذه الأسئلة الجديرة بالنظر والمناقشة.
كيف يمكن معرفة المصالح الأمريكية في أفغانستان والمنطقة؟
إن عددا كبيرا من الشخصيات الأمريكية البارزة إعلاميا ترى أن الولايات المتحدة الأمريكية ترعى حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات المدنية والقيم الديمقراطية وأنها مسؤولة تجاه هذه القيم ولذا أُضيفت قضايا حفظ حقوق الإنسان والعمل على إحياء حقوق المرأة وتأسيس الأنظمة الديمقراطية ضمن المصالح الأمريكية[1]. السبب الذي يسّر شيوع هذه المفاهيم لدى الوعي المجتمعي الأمريكي يكمن في التأثير الحاصل من الدعايات السياسية المنشورة عبر وسائل الإعلام ومراكز الدراسات وبقية وسائل التواصل والتي تضفي المشروعية على أي حرب تدخل فيها القوات الأمريكية. إلا أن الحاضر والتاريخ يظهران أن القيم المذكورة لا مكان لها ضمن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. بالنظر إلى ما مرت به أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط القارة الأفريقية والعديد من الدول الأخرى نجد أن جزءا كبيرا من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في المجالات العسكرية والأمنية والسياسية – على النطاق الدولي – تضمن الإطاحة بالحكومات وافتعال كوارث بشرية ودعم الأنظمة الدكتاتورية وتعزيز الانقلابات العسكرية ضد الحكومات المنتخبة أو السكوت تجاهها، مع أن هذه الأمور تتعارض مع حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية.
إذا أردنا أن نسعى لمعرفة المصالح الأمريكية في أفغانستان والمنطقة فهناك حقيقة ينبغي استحضارها وهي أن السياسة الخارجية للدولة المذكورة تشهد بأنها بعد حضورها العسكري بأفغانستان قد أعادت تعريف مصالحها وعينت لها حدودا جديدة، كما أن نوع النظام الذي سيحكم أفغانستان وحالة حقوق الإنسان والمآسي الإنسانية ونزوح ملايين الأفغان وحتى الحرب الأهلية لن تشكل عوامل إيجابية أو سلبية في مسيرة الولايات المتحدة تجاه الحصول على مصالحها.
بالنظر إلى التصريح المذكور في الفقرة السابقة، نجد أن أوضاع أفغانستان ازدادت تعقيدا بعد انتهاء الحضور الأمريكي العسكري في أفغانستان. محادثات السلام وصلت إلى طريق مسدود والمواجهات العسكرية تمر بتصعيد مستمر يُودي يوميا بحياة المئات من الأفغان؛ كما أن التنبأ بما يحمله المستقبل للبلد بات متعذرا. ونظرا لهذه الأوضاع الحالكة لم تقدر الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن أن تضع خارطة طريق تبيّن لها خطواتها التالية وتوصلها إلى مصالحها[2].
في مثل هذه الأوضاع ولأجل التعرف على ملامح الفترة الحالية؛ ما ثم من طريقة سوى تمييز المستفيد والمتضرر من التطورات والتغييرات وعندها يمكن تشخيص المصالح الأمريكية. بعبارة أخرى؛ ما هي ملامح النظام الأفغاني الذي يُثقل كفة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو مصالح دول المنطقة؟ وما هو النظام الذي سيقدم نتيجة تعاكس المصالح الأمريكية أو مصالح دول المنطقة؟ ونتيجةً للإجابة على هذه الأسئلة يمكن بنحو ما الوقوف على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وتحليلها.
إن المستفيدين أو المتضررين من أوضاع أفغانستان المستقبلية يمكن فرزهم إلى قسمين بشكل عام: دول المنطقة في جانب والولايات المتحدة الأمريكية في الجانب الآخر.
مواقف دول المنطقة
بشكل عام ترى دول المنطقة أن مصالحها ستكون في مأمن إذا باتت أفغانستان مستقرة وآمنة؛ وذلك كي لا يتهدد هذه الدول خطرٌ أمني من جهة أفغانستان وتتبدل المنطقة بمساعدة جغرافية أفغانستان إلى مجمع تجاري إقليمي. وفي هذه المصالح تُعد باكستان ذات نصيب ملحوظ.
من بين دول المنطقة، تُعد باكستان الأكثر فعالية وتفاعلا مع قضية أفغانستان. إن الفكرة التاريخية المتأصلة في الأجهزة العسكرية والأمنية الباكستانية تقوم على جعل الصداقة أو العداوة مع أفغانستان على رأس قائمة قضايها الأمنية الوطنية. فالمنافسة مع الهند، وخط ديورند الحدودي، والسكان الكثيرون المتواجدون شرق حد ديورند المذكور من عرقية البشتون والبلوش؛ كلها تُعد تحديات أمنية كبرى أمام الحكومة الباكستانية.
إن باكستان بالنظر إلى وضعها لا ترغب في أن تُحصر في منطقة تُطل عليها من جهة دولة الهند القوية المعادية لها ومن جهة أخرى تُطل عليها الدولة الأفغانية في حال قوتها ومعاداتها لباكستان. ولهذا السبب ما زالت باكستان تتدخل في عمق الشأن الأفغاني منذ عام 1970م.[3]
والآن مع بلوغ الحضور الأمريكي العسكري نهايته في أفغانستان، يبدو بالنظر في الأوضاع أن كفة الميزان أثقل لصالح باكستان، وتود باكستان أن تُحفظ مصالحها تحت ظل النظام الأفغاني القادم. بالإضافة إلى النقطة الإيجابية المذكورة فإن الحقيقة الأخرى هي أن الاقتصاد الباكستاني ليس في حالة جيدة؛ ويمكن تحسنه إذا حظيت المنطقة بالاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية. إن باكستان تحتاج للاتصال بأسواق دول آسيا الوسطى عبر أرض أفغانستان لتبيع منتجاتها هناك وتستفيد من مصادر الطاقة المتوفرة بتلك الدول. وفي السياق ذاته للصين مشروعها التنموي في باكستان – الحزام الصيني الباكستاني والذي تبلغ ميزانيته عدة مليارات دولار – وترغب الصين في وصل هذا المشروع بدول آسيا الوسطى عبر أرض أفغانستان كذلك. علاوة على ما ذُكر، تعلم باكستان أنها ستكون المتضرر الأول من تدهور الأمن في أفغانستان، فمن الأمثلة اليسيرة لذلك اختلال الأمن في مناطق باكستان الحدودية والنزوح المحتمل من قِبل ملايين الأفغان ولجوءهم للعيش في باكستان.[4]
الاحتياجات الاقتصادية والشراكة الاقتصادية مع الصين ومسائل الأمن الوطني عوامل حدت بباكستان إلى العمل على تعزيز الاستقرار في أفغانستان والمنطقة والسعي في استمرار تأثيرها على أفغانستان في المرحلة الجديدة. إلا أن باكستان لن تسمح لطالبان بأن تعتلي كرسي السلطة في أفغانستان عبر إعمال القوة. وذلك لأن سعي طالبان للوصول إلى السلطة بهذه الطريقة سيهدم مشروعية كيانها التي أسستها عبر جهودها الدبلوماسية خلال السنين الثلاث الماضية. كما أن الحكومة التي ستتأسس باستعمال القوة ستفقد دعم المجتمع الدولي ودول المنطقة، وهذا أمر يتعارض مع مصالح الجانب الباكستاني. ما تريده باكستان هو أن تلعب حركة طالبان دورا في تأسيس حكومة مشتركة مشروعة؛ لتحظى بالقبول على الصعيدين الدولي والإقليمي.[5]
تسعى الصين لتحقيق هدفين هامين في أفغانستان؛ أولهما اقتصادي يتمثل في وصل موانئ باكستان البحرية والحزام الاقتصادي الصيني- الباكستاني بآسيا الوسطى عبر أرض أفغانستان في حال استقرار أمنها؛ والثاني هدف أمني يتمثل في تجنيب أفغانستان من أن تكون حاضنة للجماعات المتطرفة التي قد تُهدد أمن الصين وخصوصا ولاية سنكيانج التي بتدهور الأمن فيها ستواجه مشاريع الصين عوائق وعقبات. بالإضافة إلى ذلك سيؤدي تدهور الأمن في أفغانستان إلى أن تصير البلدُ مركزا نشطا لإنتاج وتصدير المخدرات؛ الأمر الذي تقلق الصين حياله.[6]
روسيا كذلك لا ترغب في أن تواجه تحديات أمنية على طول حدودها الجنوبية. ولذا وسعت روسيا من رقعة حضورها العسكري في دول آسيا الوسطى وقد أسست نظاما أمنيا يغطي دول المنطقة.[7]
إن روسيا ودول آسيا الوسطى ترى في داعش خطرا كبيرا وسبب هذا الخوف هو أن قوات داعش تشتمل على عدد كبير من رعايا وأتباع دول آسيا الوسطى. إن اختلال الأمن في أفغانستان سيمهد الأرضية لنمو تنظيم داعش مما سيتسبب في خلق مشاكل اقتصادية مكلفة لروسيا ودول آسيا الوسطى كما يمكن أن تؤدي إلى كوارث بشرية. السياسة التي تتبناها روسيا حاليا تجاه أفغانستان تتمثل في عدم الدعم الواسع لأي طرف من الأطراف في أفغانستان. إن روسيا قادرة على حفظ علائقها مع أي نظام يُحكم سيطرته على أفغانستان شريطة أن لا يُهدد هذا النظام مصالح الجانب الروسي. كما أن روسيا ودول آسيا الوسطى تقلق – مثل الصين – من تحدي تحول أفغانستان إلى وكر مُصدّر للمخدرات ولا ترغب في أن تصير أسواقها مراكز كبرى للاتجار بالمخدرات.[8]
إن الحضور العسكري الأمريكي في أفغانستان قد صب في مصالح الصين وروسيا، وذلك أن البلدين المذكورين خلال العقدين الماضيين لم يواجها تحديات أمنية تجاه المناطق التي بها حدود مشتركة مع أفغانستان. خلال العشرين سنة الماضية اجتنبت روسيا بشكل كامل التدخل المباشر في الشأن الأفغاني ولم ترغب في أن تلعب دورا في عملية معقدة لا تُعلم نتائجها، كما أن مصادر روسيا وإمكانياتها في المنطقة لا تتيح لها إدارة وتوجيه حرب واسعة. إن سيطرة روسيا ونفوذها في حدودها الجنوبية ودول آسيا الوسطى ليس على مستوى يمكّنها من منع الهجرات الجماعية الكبيرة وتهريب المخدرات وتردد الجماعات المسلحة. لهذا لم تُبدِ روسيا مخالفة للحضور الأمريكي العسكري في أفغانستان على النحو الذي أبدته تجاه حضور القوات الأمريكية في الدول الأخرى وخصوصا دول الشرق الأوسط.[9]
إن موقف الصين خلال العقدين الماضيين مشابه لما ذكرناه من موقف روسيا، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية بذلت جهودا وأموالا لأجل استقرار أفغانستان ولم ترغب الصين في التدخل المباشر في القضية الأفغانية.[10]
إن إيران – مثل باكستان – تواجه تحديات على الصعيد الاقتصادي، وذلك نتيجة للعقوبات الاقتصادية خلال السنوات المتطاولة السابقة. وفي دول الشرق الأوسط نجد أن إيران مشغولة في دول عديدة. إن إيران وخصوصا القسم الشرقي منها تقع في موضع جاف من العالم مما شكل مشاكل كبرى للأمن الوطني الإيراني. وفي هذه الحالة تسعى إيران لعدم تضييع مصادرها ووقتها في قضية أفغانستان على النحو المستَنزِف المُشاهد في دول آسيا الوسطى. ومع ذلك فإن إيران لا ترغب في أن يتم إقصاؤها من حيازة أي دور في مستقبل أفغانستان. إن إيران بحاجة إلى حكومة مستقرة في أفغانستان لتكوّن صداقة معها. إن أفغانستان تشكل سوقا جيدة للمصنوعات الإيرانية والنفط الصادر من إيران. كما أن إيران وقعت اتفاقية اقتصادية مع الصين تمتد لخمس وعشرين سنة، وترغب أن توطد علاقاتها التجارية مع الصين وباكستان. إن الأنشطة الاقتصادية الصادرة من إيران والصين وباكستان في المنطقة ستواجه مشاكل عديدة إذا لم تحظ أفغانستان بالأمن والاستقرار.[11]
باختصار يمكننا القول بأن استقرار أفغانستان يصب في مصالح دول المنطقة، كما أن استقرار أفغانستان يُشكل خطوة مهمة في سبيل التنمية الاقتصادية بالمنطقة. أما التدهور الأمني بأفغانستان فسيمهد الطرق لنمو الجماعات المتطرفة بالبلد، الأمر الذي ستطال آثاره جميع دول المنطقة وخصوصا باكستان والصين وروسيا ودول آسيا الوسطى وإيران. في مثل هذه الأوضاع ستسعى الدول المذكورة لتعزيز الاستقرار في أفغانستان، وباستثناء باكستان التي ترى في طالبان فرصة لها، لذا لن تهتم بالجهة المعينة التي سُترسي دعائم الاستقرار في أفغانستان.
مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها
بعد عقدين من الزمن باتت الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن تنظيم القاعدة في أفغانستان قد ضعف ووصل إلى درجة الاضمحلال كما أن تنظيم طالبان قد وعد بعدم السماح لأي جهة بأن توجّه خطرا يهدد المصالح الأمريكية. يرى الرئيس الأمريكي جو بايدن وبقية المسؤولين رفيعو المستوى في الولايات المتحدة الأمريكية عدم الحاجة في الفترة الراهنة للنشاط العسكري الأمريكي في أفغانستان، وذلك لعدم بقاء المخاطر التي كانت موجودة في الفترات السابقة. إلا أن انتهاء الحضور العسكري الأمريكي في أفغانستان لا يعني أن المصالح الأمريكية في أفغانستان ودول المنطقة قد زالت وفقدت معناها.
بعد مضيّ عشرين سنة شهد العالم ودول المنطقة تحولات وتغييرات. إن الصين باعتبارها قوة اقتصادية كبرى تريد أن تُحكم سيطرتها الاقتصادية على العالم وأن تمد شبكتها التنموية إلى الدول النامية والفقيرة من آسيا إلى أفريقيا وأن تتحدى السيطرةَ الأمريكية على مفاصل الاقتصاد العالمي. وفي السياق ذاته تستعد روسيا لإنشاء تحالفات وأقطاب تدور حول رحى المصالح. مع أن كلاً من الصين وروسيا قد تنظران إلى بعضهما بنظرة ريب في قضايا دول آسيا الوسطى إلا أن بإمكان الدولتين التوحد وتبادل الثقة أمام التوسع الأمريكي. إن روسيا قد عرّضت السيطرة الأمريكية لتحديات صعبة في منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي. ضمن دول المنطقة تُعد الهند الدولة الوحيدة التي يمكن أن تتماشى وتتعايش مع المصالح الأمريكية، في حين أن بقية دول المنطقة إما أن تكون داخل منافسة استراتيجية مع الولايات المتحدة أو أنها تميل – وفق ما تمليه مصالحها – إلى الجانب الذي تثقل كفته في موازين القوى المتغيرة.
وفي مثل هذه الظروف والملابسات لن تجد الولايات المتحدة الأمريكية مناصا من ترتيب أولوياتها وفق مصالحها وتغيير سياساتها وخططها. إن إنهاء الحضور العسكري للولايات المتحدة في أفغانستان يشكل الخطوة الأولى في إعادة تنظيم قائمة الأولويات والتغيير في السياسات الأمريكية.
يظهر حاليا أن الولايات المتحدة الأمريكية تتبع عدة أهداف هامة في المنطقة وترى تحقق مصالحها في تحقق هذه الأهداف. أول هذه الأهداف هو أن لا تُستعمل أرض أفغانستان بشكل يضاد المصالح الأمريكية وقد تحقق لأمريكا هذا الهدف. والهدف الثاني هو أن لا يؤدي الاختلال الأمني في أفغانستان إلى تدهور الأمن في باكستان بحيث تصل أيدي الجماعات المسلحة غير الحكومية إلى السلاح النووي الباكستاني، كما يهم الولايات المتحدة أن لا تتسع رقعة المعارك الأفغانية إلى درجة تتسبب في نشوب حرب نووية بين الهند وباكستان. إن الولايات المتحدة الأمريكية تراقب عن كثب التوترات الحاصلة في المنطقة بين الهند وباكستان ولا ترغب في ترك حليفتها الوحيدة في المنطقة – الهند – معرضة للمخاطر. لطالما أبدت الولايات المتحدة الأمريكية قلقها بصوت مرتفع حيال السلاح النووي الباكستاني، وتشكل حاليا قضية تقليل التوتر بين الهند وباكستان جزءا مهما من إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه جنوب آسيا.[12] وثالث تلك الأهداف هو تأسيس حكومة أفغانية غير خاضعة لمنافسي الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، أي أن تؤسس حكومة أفغانية مستقلة لا ترى في الولايات المتحدة الأمريكية عدوا إستراتيجيا؛ حتى لو لعب تنظيم طالبان دورا كبيرا وهاما في هذه الحكومة فإن الولايات المتحدة تقبل بذلك.[13]
إن مصالح دول المنطقة لا تتعارض في الظاهر مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وإنما يبدو تقارب هذه المصالح. إن دول المنطقة ترى مصالحها في استقرار أفغانستان؛ ولأجل التنافس الإقليمي بين دول المنطقة لا يمكن لأي دولة أن تتحكم بالكامل في مستقبل الحكومة الأفغانية. في مثل هذه الأوضاع لا ترى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مُجبرة على إنفاق 40 مليار دولار سنويا أو تعريض قواتها للقتل لتتكفل وحدها بإرساء الأمن والاستقرار في أفغانستان. إن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن استقرار أفغانستان يصب قبل كل شيء في مصلحة دول المنطقة ولذا ينبغي على دول المنطقة أن تلعب الدور الأبرز في عملية إرساء السلام والاستقرار في أفغانستان. إن هذا التصور الأمريكي للقضية الأفغانية يظهر بجلاء من اللقاء الذي أجرته وكالة سي إن إن مؤخرا مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.[14]
الخاتمة
باختصار يمكن القول بأن الجهود العسكرية والسياسية التي بذلتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الماضيين لم تمكّنها من إرساء الأمن والاستقرار في أفغانستان. إن دول المنطقة ترمق خطط الولايات المتحدة بكثير من الريبة ولذا تسعى هذه الدول لحفظ علائقها مع طالبان بالإضافة إلى علاقاتها القائمة مع الحكومة الأفغانية. إن الأوضاع في المنطقة آخذة في التحول والتغيير وتسعى الدول المنافسة للمشروع الأمريكي في هدوء كامل إلى وضع خططها التي تكفل لها أهدافها الإقليمية والدولية. بالنظر إلى جميع ما ذكرناه نلحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في أن تتكفل لوحدها بميزانية إعادة تأهيل أفغانستان وتثبيت أمنها كما أنها ليست مستعدة لإهدار مصادرها العسكرية والأمنية في حرب لا يُعلم أوان انقضائها ولا طائل من رائها. لذا تعتزم الولايات المتحدة أن تنهي حضورها العسكري في أفغانستان وتسلم بشكل كامل مسؤولية تأمين أفغانستان وتأهيلها إلى دول المنقطة. وفي هذه المرحلة سيكون دور الولايات المتحدة الأمريكية هو دعم عملية السلام قدر وسعها ودعم الحكومة الأفغانية لمنع انهيارها بشكل فوري وإعمال الضغط على أطراف النزاع عند الضرورة ليستأنفوا مفاوضات السلام.
إن توقف الحرب في أفغانستان يصب في مصالح الولايات المتحدة الأمريكية كما أن استمرار الحرب سيضر كثيرا بدول المنطقة الواقع معظمها في منافسة إستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. إذا تدهورت أوضاع أفغانستان بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تحافظ إلى حد ما على مصالحها وأهدافها الإقليمية وأن تتدخل عسكريا عند الضرورة.
بالنظر إلى الأوضاع لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لإشعال الحرب والعنف في أفغانستان مجابهةً للدول المنافسة لها في المنطقة وخصوصا الصين وروسيا. إذا كانت دول المنطقة ترى مصالحها في استقرار أفغانستان فمن اليسير عندها أن تعمل بشكل مشترك على منع اندلاع الحرب وتمددها. إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون مستعدة لتُنافس كافة الأطراف الدولية في مثل هذا الوضع.
[1] Annie Pforzheimer “Protecting Wider U.S. Interests after a Troop Withdrawal”. Center for Strategic and International Studies, 16 June 2021, www.csis.org/analysis/protecting-wider-us-interests-after-troop-withdrawal
[2] Mitchell, Ellen. “Biden Struggles to Detail Post-Withdrawal Afghanistan Plans.” TheHill, The Hill, 19 June 2021, thehill.com/policy/defense/559229-biden-struggles-to-detail-post-withdrawal-afghanistan-plans?rl=1.
[3] – “Pakistan: Shoring Up Afghanistan’s Peace Process.” Crisis Group, 30 June 2021, www.crisisgroup.org/asia/south-asia/pakistan/b169-pakistan-shoring-afghanistans-peace-process.
[4] Ibid.
[5] Ibid.
[6] Babb, Carla, et al. “China’s Plans in Afghanistan Following US Troop Withdrawal.” Voice of America, 18 June 2021, www.voanews.com/south-central-asia/chinas-plans-afghanistan-following-us-troop-withdrawal
[7] Lewis, Dustin. “Collective Security Treaty Organization (CSTO).” HLS PILAC, HLS PILAC, 30 Mar. 2015, pilac.law.harvard.edu/multi-regional-efforts//collective-security-treaty-organization-csto.
[8][8] TRENIN, DMITRI, et al. A Russian strategy for Afghanistan after the coalition troop withdrawal. CARNEGIE MOSCOW CENTER, May 2014, carnegieendowment.org/files/CMC_Article_Afganistan_Eng14.pdf.
[9] Ibid.
[10] Babb, Carla, et al. “China’s Plans in Afghanistan Following US Troop Withdrawal.” Voice of America, 18 June 2021, www.voanews.com/south-central-asia/chinas-plans-afghanistan-following-us-troop-withdrawal
[11] SETH J. FRANTZMAN “After US Afghanistan Withdrawal, Will Pakistan, Iran and Turkey Take Over.” The Jerusalem Post | JPost.com, www.jpost.com/international/after-us-afghanistan-withdrawal-will-pakistan-iran-and-turkey-take-over-672090
[12] JIM GARAMONE. “President Unveils New Afghanistan, South Asia Strategy.” U.S. Department of Defense, www.defense.gov/Explore/News/Article/Article/1284964/president-unveils-new-afghanistan-south-asia-strategy/
[13] Felbab-Brown, Vanda. “US Policy toward Afghanistan: Consider the Trade-Offs, Including with Other Policy Areas.” Brookings, Brookings, 14 Jan. 2021, www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2021/01/12/us-policy-toward-afghanistan-consider-the-trade-offs-including-with-other-policy-areas/
[14] Gaouette, Nicole, and Jennifer Hansler. “Blinken Says US Withdrawal from Afghanistan Will Concentrate the Minds of ‘Free Riders’ in the Region.” CNN, Cable News Network, 30 Apr. 2021, www.cnn.com/2021/04/27/politics/blinken-tapper-the-lead/index.html