مساعي الإمارة الإسلامية في شأن المصالحة الوطنية؛ الفرص والتحديات

تحرير: مركز الدراسات الاستراتیجية والإقلیمیة

ملاحظة: انقر هنا للحصول على ملف PDF لهذا التحليل.

___________________________________________________________________

ستقرؤون في هذه النشرة:

توطئة

ما المراد من المصالحة الوطنية؟

الحاجة للمحادثات الأفغانية الداخلية

الفرص السانحة أمام مشروع المصالحة الوطنية

التحديات المعترضة لمشروع المصالحة الوطنية

الخطوات المتخذة حيال المصالحة الوطنية وتأثيراتها

الخطوات المقترحة لمشروع المصالحة الوطنية

النتائج المتوقعة لمساعي المصالحة الوطنية

___________________________________________________________________

توطئة

خلال العقدين الماضيين كان التصور السائد حول القضية الأفغانية يفترض أن انتهاء الحرب في البلد موقوف على تأسيس نظام حكم يعكس إرادة جميع فئات الشعب الأفغاني بحيث لا تبقى هناك أي جهة معارضة. حاليا بعد انتهاء فترة الاحتلال وحدوث التغييرات في نظام الحكم هناك مساران مطروحان لإنهاء الأزمة الأمنية في أفغانستان. أولهما هو أن تكون الحكومة بيد حزبٍ أُحاديّ أمام معارضة متشكلة من مختلف الأحزاب والفئات. والمسار الثاني هو تشكيل حكومة تمثل كافة أطياف المجتمع. وبالنظر في التجربة التي خاضتها أفغانستان خلال العقود الماضية يمكن القول بأن المسار الثاني هو الكفيل بإحلال الأمن والاستقرار في البلد.

أخفق أصحاب السلطة خلال العشرين سنة الماضية في إرساء الأمن والرخاء بأفغانستان، وبالإضافة لذلك هم متهمون بنهب ثروات البلد، ولذا فإن عودتهم لكراسي الحكم لن يحول دون حدوث الأزمات المحدقة بالبلد. لكن بجانب ما ذُكر هناك تصور آخر يؤكد أن الإقصاء الكامل لجميع سياسيي الحقبة الماضية لن يكون إلا تكرارا للتجارب المخفقة السابقة وسيساعد على استمرار حالة الفوضى والاضطراب في أفغانستان. ويظهر أن السياسة المُتبعة منذ استلام الإمارة الإسلامية لزمام الحكم هي الإقصاء التام لجميع الشخصيات السياسية المستقلة والأحزاب  التي ظهرت على الساحة السياسية خلال العقود الماضية.

جماعة طالبان بصفتها الإمارة الإسلامية بأفغانستان تضطلع حاليا بدور الحكومة المسؤولة ولذا فإن أي تعامل سطحي من قِبلها تجاه قضايا البلد سيفضي إلى نتائج سلبية. مع أن مجلس الوزراء الجديد بالإمارة الإسلامية قد شكل لجنة لمفاوضة الأفغان وعودة المهاجرين إلى البلد، إلا أن التعامل الحكومي خلال الأشهر المنصرمة ينفي وجود أي استعدادٍ لإشراك الأحزاب السياسية والجمعيات والمسؤولين السابقين والشخصيات المجتمعية والشعبية في مناصب اتخاذ القرار أو حتى المناصب الاستشارية، كما ينتشر تصور قائل بأن المسؤولين في الحكومة السابقة يتمتعون بحق العيش في أفغانستان تحت ظل قرار العفو العام ولا يحق لهم أن يُطالبوا بأي مطالبات أخرى ولا ضرورةَ للتشاور معهم حول قضايا البلد. إلا أن من المحتمل بقوة إذا استمر الوضع بهذه الصورة أن تُصنع تحديات وتُخلق عثرات من قِبل الشخصيات والأحزاب المهمشة أمام الحكومة الحالية وفي تلك الحالة تكون قد زالت الفرصة الموائمة للمفاوضات وإحلال السلام الدائم. لذا فإن من أهم أولويات المرحلة الراهنة استغلال الفرص السانحة للخطو الحثيث نحو المصالحة الوطنية لأجل إرساء دعائم الاستقرار واستئصال عوامل الحرب والعنف.

وبالتالي هناك ضرورة لعقد المحادثات مع الشخصيات السياسية التي لعبت دورها في الحقبة الماضية ومفاوضتهم حيال مطالباتهم، ومن جانبٍ آخر فإن التفاهم الوطني في جزء كبير منه منوط بأفراد الشعب ولذا تمس الحاجة إلى بروز شخصيات أكاديمية واجتماعية من مختلف شرائح المجتمع لتتم استشارتهم وليلعبوا دورهم في اتخاذ القرارات.

في هذا المقال سيدور حديثنا حول الحاجة الملحة للخطو السريع نحو المصالحة الوطنية وما يكتنف ذلك من فرص وتحديات، كما سيتم تقييم مُنجزات الإمارة الإسلامية في هذا الصدد ورسم خارطة طريق للأعمال المستقبلية والبحث عن النتائج المتوقع حصولها في حال نجاح المصالحة الوطنية.

ما المراد من المصالحة الوطنية؟

إن معنى المصالحة الوطنية أو الوفاق الوطني يتمثل في إزالة التحديات التي تواجه مستقبل البلد والتي يُحتمل أن تُخلق من قِبل الفئات الأفغانية المعارضة للحكومة، أو السعي إلى تقليل تلك التحديات إلى أدنى حد ممكن. ليس التركيز في هذه العملية منصبا فقط على المواطنين الأفغان الذين هاجروا مؤخرا إلى الخارج وإنما يشمل الأمر المواطنين داخل البلد حيث إن المؤشرات الحالية تنفي منح أي أدوار ريادية للكثير من الشخصيات السياسية المقيمة في البلد والأحزاب وبقية فئات الشعب الأفغاني.

ليس معنى المصالحة الوطنية أن يُعاد أصحاب السلطة الفاسدون من الحكومة السابقة إلى مناصبهم أو أن يتم تقسيم السلطة السياسية بين شخصيات محدودة كما كان الحال خلال العقدين الماضيين، وإنما يعني مصطلح المصالحة الوطنية الاهتمام بجميع مطالب ومخاوف الشعب الأفغاني حيال مستقبل البلد وأن تتم المحادثة مع مختلف الشرائح المجتمعية المذكورة حول مطالبهم ومخاوفهم ويتم توضيح دور الشعب في القضايا الوطنية المصيرية، وذلك سيحول دون نشوب الاضطرابات والاختلالات الأمنية وسيضمن استقرار البلد ورخاءه، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بتوخي القسر والقمع فحسب.

 

الحاجة للمحادثات الأفغانية الداخلية

الوفاق الوطني بشكل عام أمر ضروري لكل مجتمع، وقد أثبتت العقود الماضية في أفغانستان على وجه الخصوص أن صُناع القرار متى ما استغنوا عن المصالحة والتفاهم مع مخالفيهم السياسيين فإن سلطتهم لم تدم كما أن التحديات كانت تكثر أمامهم إلى الحد الذي أدى إلى الإطاحة بأنظمتهم.

إن التحولات التي حدثت في الأشهر الأخيرة الماضية بعد سقوط النظام الحاكم السابق تدل على عدم وجود تعامل بين الحكومة الراهنة ومعارضيها السياسيين، حتى إن الشخصيات والأحزاب المؤيدة للإمارة الإسلامية لم تحظ بنصيب في هيكل الحكومة ولم تُمنح أي دور في دوائر الحكم وقاعات صنع القرار. مع أن سياسة الحكومة الراهنة تدل في ظاهرها على تمتع اللمسؤولين بالحكومة الأفغانية السابقة بحق العيش بأفغانستان مثل بقية المواطنين إلا أن التقديرات السائدة تفيد بأن معظم الشخصيات السياسية التي لجئت لدى الدول الأجنبية لن تعود إلى أفغانستان لمجرد العيش بالبلد ولن ينزعوا يدا من المعارضة، ولذا من الضروري أن يتم التفاوض معهم حيال مطالباتهم. من هذا المنطلق يُقدر أن إقصاء المعارضين السياسيين سيخلق عثرات أمام الحكومة الحالية على المدى القريب والمتوسط. فيما يلي نشير إلى أمثلة من هذه التحديات المحتملة والتي تؤكد على ضرورة الوفاق الوطني:

أولاً: وفق التجربة التي خاضتها أفغانستان في العقود الأخيرة يظهر أن مشروع الوفاق الوطني والمصالحة مع المعارضة السياسية بأفغانستان هو السبيل الوحيد الذي يضمن سلامة البلد من الاضطرابات والتدخلات الأجنبية. إن المعارضة الأفغانية تُشكل آلة التحكم الوحيدة التي تُستغل للتدخل في شؤون البلد الداخلية من قِبل أجهزة المخابرات التابعة للدول الأجنبية والحكومات المخالفة لوجود نظام حكم قوي بأفغانستان، وقد لعب هؤلاء دورا بارزا على  الصعيد السياسي الأفغاني في الحقبة الماضية. إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن الأجهزة الأمنية الخارجية والدول المعادية لأفغانستان ستقوّي الجهات السياسية المُعارضة شيئا فشيئا مما سيضيع الفرصة السانحة للوفاق الوطني. من المهم استحضار أن الهدم أسهل من البناء، وإن استمرت الأوضاع على الوتيرة الحالية فيُحتمل أن تُهيأ أجواء التجنيد العسكري لمُعارضي الحكومة.

ثانيا: حاليا يرى المجتمع الدولي أن تأسيس حكومة شاملة هو الحل الوحيد للأزمة الأفغانية كما أنه شرطٌ محتم للاعتراف رسميا بالحكومة الأفغانية. في حال عدم حصول الوفاق الوطني والمصالحة الشعبية فستُعدُّ الحكومةُ سُلطةً أُحاديةً مكونة من جماعة واحدة (طالبان) مما سيؤول إلى استمرار أزمة شرعية نظام الحكم وسياساته على المستوى الدولي والمحلي كما أنه سيعرض البلد لتحديات اقتصادية وأمنية عديدة. المهاجرين الأفغان وخصوصا الشخصيات السياسية المعارضة إن عادوا إلى أفغانستان سيملؤون هذه الفجوة إلى حد كبير. من جانبٍ آخر فإن طلب تشكيل حكومة شاملة لم يصدر عن معارضي الإمارة الإسلامية فحسب وإنما يمثل رغبة جميع مكونات الشعب الأفغاني التي ترغب أن يتم تمثيل هويتها وتطلعاتها في النظام الحاكم.

ثالثا: السياسيون الذين هاجروا من البلد لهم مؤيدون وأتباع في الداخل، لذا فإن دمجهم في عملية الوفاق الوطني سيزيد معدل رضا الشعب كما أنه سيلعب دورا إيجابيا في الحد من المعارضات والتهديدات السياسية والأمنية مستقبلا.

الفرص السانحة أمام مشروع المصالحة الوطنية

حاليا هناك فرص كثيرة أمام عملية المصالحة الوطنية إلا أن هذه الفرص قد لا تدوم طويلا. فيما يلي نشير إلى بعض هذه الفرص:

  • أبرز فرصة مساعدة في الفترة الحالية هي توقف الحرب والاستقرار الأمني النسبي في البلد مما يُشكل جوا مناسبا للعمل على إرساء الاستقرار الدائم بأفغانستان. المواطنون الأفغان ذاقوا ويلات الحرب حقبا عديدة ولذا فإن كافة أفراد الشعب يساندون قرار المصالحة الوطنية. بالإضافة إلى ذلك فإن توقف الحرب واستتباب الأمن بشكل نسبي في البلد يجعل عودة المعارضين السياسيين إلى أفغانستان عملية يسيرة وخطوةً مرغوبة. إن عددا كبيرا من المواطنين المهاجرين إنما خرجوا من البلد بسبب الحرب والتدهور الأمني والتضييقات السياسية والمخاطر التي تهدد بقاءهم على قيد الحياة.
  • إن إعلان العفو الشامل الصادر من الإمارة الإسلامية وتطبيق هذا القرار هيأ الأجواء بشكل ملحوظ لعملية المصالحة الوطنية كما أن هذا القرار يُشكل بداية حسنة للوفاق الوطني. لذا تُعد الأجواء مهيأة لاستمالة قلوب المعارضين السياسيين وبناء الثقة المتبادلة بين كافة الأطراف.
  • بعد قدوم الإمارة الإسلامية بقي عدد من كبار الشخصيات السياسية في أفغانستان ممن لهم وزنهم ووجاهتهم داخل وخارج البلد. من الفرص السانحة أن يُستفاد من وجود هذه الشخصيات الوجيهة في سبيل احتواء بقية المعارضين السياسيين اللاجئين بالخارج.
  • حاليا تسيطر الإمارة الإسلامية على كافة أراضي أفغانستان، كما أن موقف العديد من الشخصيات السياسية في الفترة الراهنة يجعلهم مستعدين لحدٍ أدنى من المطالبات بحيث إذا تمت الاستجابة لمطالبهم فإنهم سيبادرون للعودة وسينزعون أيديهم من المعارضة. كما أن سيطرة الحكومة على جميع مساحات البلد واستقلالها يساعد على اتخاذ القرارات وتتبع المصالح الشعبية والإسلامية دون تأثر بالضغوط والإملاءات الصادرة من الدول الأجنبية.
  • باستثناء بعض الدول في المنطقة والعالم فإن السياسة المتبعة حاليا بمعظم الدول هي الامتناع عن مساندة المعارضة المسلحة بأفغانستان وتأييد مسار تأسيس حكومة أفغانية شاملة ومقتدرة. كما أن الفرص مؤاتية للمفاوضات مع المسؤولين والسياسيين بالدول التي تساند المعارضة الأفغانية بحيث تمهد تلك الدول لمفاوضات أفغانية داخلية تعقبها عودة المعارضين اللاجئين إلى أفغانستان.
  • الفرصة البارزة أيضا في هذا الصدد هو عدم توحد وتمحور المعارضين حول جبهة أو قطب واحد مما يُمهد للتفاوض مع كل جهة على حدة. هناك مساعٍ دؤوبة للتنسيق بين الجهات المعارضة وتوحيد جبهاتها، وإذا توحدت هذه الفئات فإن عملية المفاوضات والمصالحة الوطنية ستصبح مستعصية إلى حد كبير. كما أن توحد الجهات المعارضة حول محور واحد ومطالبتها – على سبيل المثال – بتشكيل بلد مستقل موازٍ سيزيد من تعقيدات الأزمة الأفغانية.

 

التحديات المعترضة لمشروع المصالحة الوطنية

في الفترة الحالية، بالإضافة إلى الفرص السانحة هناك تحديات تعترض سبيل المصالحة الوطينة، ومن الضروري إبراز هذه التحديات التي تعرقل الخطو نحو المصالحة الوطنية وقد تتسبب في إضاعة الفرصة المتاحة للمفاوضات. من تلك التحديات:

  • إن أكبر عائق يعترض طريق المصالحة الوطنية والمفاوضات مع المعارضين السياسيين هو التصور السائد بأن الإمارة الإسلامية بعد إطاحتها بالحكومة السابقة تُعد القوة الغالبة الوحيدة بالبلد ومن ثم لا حاجةَ للمفاوضات، وقصارى ما يحق للمعارضين هو العيش في أفغانستان إن رغبوا. كما أن هناك تصورا قائلا بأن جماعة طالبان هزمت أكثر من أربعين دولة ولا توجد أي قوة تقدر على مقاومتها، وفي هذا الصدد ينبغي استحضار أن معارضي الإمارة الإسلامية قد يحوزون من القوة ما يجعلهم على أقل تقدير قادرين على الإخلال بالأمن والاستقرار.
  • الغموض والإبهام المكتنفان لمستقبل الحكومة يُعدان كذلك من أكبر التحديات الحالية، فالكثير من المواطنين الأفغان بما فيهم المعارضون لا يعلمون طبيعة النظام الحاكم ومدى اتساع أطره كما أنهم يجهلون المصير الذي تسير أفغانستان نحوه بشكل عام. يُضاف إلى ذلك أن هناك فراغا قانونيا بحيث تُسيَّر أمور البلد وفق أوامر غير قانونية وأحيانا وفق اختيارات ذوقية. إذا قامت الإمارة الإسلامية بتوضيح هذه الجوانب وتم تقديم مقترح لتشكيل حكومة شاملة فإن الكثيرين من اللاجئين والمعارضين سيعودون إلى بلدهم.
  • إن انهيار الحكومة السابقة واعتلاء الإمارة الإسلامية على كرسي الحكم باستخدام القوة العسكرية أوجد تصورا بأن المسؤولين بالحكومة السابقة لا يحق لهم أن يلعبوا دورا على الصعيد السياسي وذلك لأنهم قد امتُحنوا ورسبوا في الامتحان. لذا تُمنع تلك الشخصيات السياسية من أداء أي دور في الفترة الحالية في حين أنهم قادرون على لعب دور إيجابي في عملية المصالحة الوطنية ودمج المعارضين في هذا المشروع.
  • بعد قدوم الإمارة الإسلامية فإن جميع المناصب الرئاسية والإدارية بالحكومة – باستثناء الوظائف التقنية والوظائف الاعتيادية – تُمنح لأعضاء جماعة طالبان، وقد تسبب ذلك في نشر فكرة قائلة بأن المعارضين السياسيين وبقية المواطنين المهاجرين لن يجدوا فرصا للعمل إذا رجعوا إلى أفغانستان.
  • حصلت أحداث تحقير وإزراء ببعض الشخصيات بالبلد مما نشر تصورا لدى الآخرين بأنهم إذا عادوا إلى أفغانستان فسيهانون بنفس الطريقة وسيعيشون وضعا شبيها بالحبس المنزلي.
  • العقبة الأخيرة والمهمة في هذا الصدد هي بعض القرارات والخطوات الصادرة مؤخرا من الإمارة الإسلامية والتي ولّدت حالة من اليأس في الداخل والخارج، منها على سبيل المثال تطويل مدة إيقاف مدارس البنات وبعض إجراءات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النحو الذي كان مُتبعا في فترة حكم طالبان السابقة. هذه الأمور عززت الصورة الذهنية القائلة بأن العيش تحت حكم طالبان أمر صعب وأن الحريات آخذة في التضاؤل والتقلص. وفي الوقت ذاته يظهر أن الكثير من المسؤولين بالإمارة الإسلامية غير راضين عن القرارات الأخيرة المُشار إليها كما يبدو أن الإمارة تفتقد لاتفاق شامل بين أعضائها حيال كيفية سياسة البلد وإدارة شؤونه، مما يزيد في يأس المواطنين المهاجرين من العودة إلى بلدهم.

الخطوات المتخذة حيال المصالحة الوطنية وتأثيراتها

في المجمل اتخُذت خطوات بصدد المصالحة الوطنية بعد انهيار النظام السابق ومن أهمها إعلان العفو العام والمفاوضات مع المعارضين للحكومة وأخيرا تشكيل لجنة المحادثات مع الأفغان وعودة المهاجرين.

إبان سقوط الحكومة السابقة أعلنت القيادة العليا بالإمارة الإسلامية عن قرار العفو العام ووفق هذا القرار ضُمن حق البقاء لجميع المسؤولين والعاملين بالنظام السابق. تم الترحيب محليا ودوليا بهذه الخطوة الصادرة عن جماعة طالبان كما عُدت هذه الخطوة فريدة من نوعها على امتداد تاريخ البلد. مع أن تقاريرا نُشرت فيما بعد عن أعمال انتقام حصلت في بعض المحافظات إلا أن صدور هذه التقارير حُسب ضمن الحرب الإعلامية التي تشنها الجهات المعارضة لحكومة طالبان كما أن المسؤولين بالإمارة الإسلامية أكدوا فيما بعد عدة مرات على ضرورة الالتزام بقرار العفو العام والتعقب والمساءلة القانونية لكل من يتمرد عليه. بشكل عام تم التقيد بهذا القرار إلى حد كبير كما أُظهر التوقير الكامل لكبار المسؤولين بالحكومة السابقة.

خلال الأشهر الماضية ومنذ تشكيل الإمارة الإسلامية كانت سياسة الحكومة هي الإبقاء على حق جميع المواطنين في العيش بأفغانستان، كما وُجهت دعوة خاصة للمسؤولين والعاملين بالحكومة السابقة لينزعوا أياديهم عن المعارضة ويعودا للعيش في بلدهم. عقب دخول قوات طالبان إلى كابل بعدة أيام وجّه الشيخ أمير خان متقي رسالة صوتية لقادة القوات المعارضة بأنهم إن ألقوا السلاح سيكونون في مأمن وبإمكانهم حينها أن يبقوا في العاصمة أو أي محافظة أخرى مع ضمان عدم تعرضهم لخطر الانتقام أو أي مواجهات عنف أخرى. مع ذلك تم اعتبار هذه الرسالة لدى المعارضين إشارة إلى حتمية الاستسلام، في صورة مشابهة لنداءات الحكومة السابقة تجاه طالبان والتي كانت حركة طالبان حينها تفسرها على أنها مطالبة بالاستسلام. حاليا يرى من اختاروا سبيل المواجه العسكرية أمام جماعة طالبان أن نزع أياديهم عن المقاومة دون حصولهم على مطالبهم يفيد معنى الاستسلام ولذا يسعون للاستمرار في الحرب وتشديد المقاومة حسب طاقتهم.

أول خطوة عملية أقدمت عليها الإمارة الإسلامية حيال المصالحة الأفغانية الداخلية شوهدت بعد نحو أربعة أشهر من استلامها لزمام الحكم، حيث التقى وفد المعارضة المسلحة بوفد الإمارة الإسلامية الذي كان يرأسه وزير الخارجية أمير خان متقي حيث طالب فيه وفدُ الإمارةِ ممثلي المعارضة بالعودة إلى بلدهم، إلا أن الأمر لم يتعد ذلك ولم يُلحظ أي تقدم إيجابي في شأن تفاوض الجانبين حيال مطالبات المعارضة.

بعد نحو ستة أشهر من فترة الحكم الجديدة ونتيجة للمساعي المذكورة قدم إلى أفغانستان أول مسؤول من ذوي المناصب الرفيعة بالحكومة السابقة. عبد السلام رحيمي شغل منصب وزير الدولة في شؤون السلام ورئيس مكتب رئيس الجمهورية، حيث إنه خرج من أفغانستان بعد سقوط النظام، ثم عاد إلى كابل وتم الترحيب الحار به على مستوى قيادة الإمارة الإسلامية. قال أمير خان متقي في اللقاء الذي عقده مع الشخصية المذكورة: قبل عشرين سنة لم يكن أمام جماعة طالبان إلا القتل أو السجن أو اللجوء إلى الجبال، أما الآن فالحكومة تدعو معارضيها للعودة والعيش بحرية وسلام في بلدهم.

عقب ذلك، كان قرار تشكيل لجنة عقد المحادثات مع الأفغان وعودة المهاجرين هو الخطوة الأهم التي اتخذتها الإمارة الإسلامية. تم تشكيل هذه اللجنة من مجموعة يرأسهم المشرف على وزارة المعادن والبترول مولوي شهاب الدين دلاور، إلا أن اللجنة خلوٌّ من المواطنين من بقية الفئات الأفغانية. لم يتم تقديم أي توضيح حيال مهام وأهداف هذه اللجنة حتى الآن، وبالتالي يظهر أن الإمارة الإسلامية قد اكتفت بخطتها القائمة على دعوة المسؤولين السابقين بالعودة إلى بلدهم، وهي خطة شبيهة بخطط مشروع السلام التي بدأت منذ عهد رئاسة حامد كرزاي حيث تبنّى المجلس الأعلى للسلام في تلك الفترة دعوة مشابهة تطالب أعضاء حركة طالبان بإلقاء السلاح والعودة إلى الحياة السلمية داخل البلد، وهي خطة لم تؤتِ ثمارها المرجوة وذلك لخلوها من استحضار الجذور والدوافع الأساسية للعنف وقيامها فقط على دوافع ومحفزات مادية تدعو الطرف المقابل للاستسلام.

مع أن هناك عددا من المسؤولين قد يرجعون إلى أفغانستان بناء على دعوة طالبان المشار إليها إلا أن الكثير من المعارضين لهم مطالبات تجعل رجوعهم إلى البلد مستبعدا إن لم تتم مفاوضتهم حيالها، وفي حال عدم تحقيق آمالهم سيزيدون من اشتعال أوار الحرب. لا شك أن عددا من المسؤولين الضالعين في الفساد من الحِقبة الرئاسية الماضية لهم مطالبات غير ممكنة ويبدو أنهم لن يختاروا بديلا عن تقوية المعارضة المسلحة، ولكن في الوقت ذاته يُعلم يقينا أن هناك الكثيرين من الشخصيات السياسية والمسؤولين بالحكومة السابقة الذين قد تكون لديهم مطالبات منطقية وآمال تتوافق مع تطلعات عامة الشعب الأفغاني.

من جانبٍ آخر أظهرت الزيارات الخارجية التي قام بها مسؤولو الإمارة الإسلامية أن هناك على المستوى الدولي مساعٍ لتمهيد المحادثات والمفاوضات بين طالبان ومعارضيهم، وذلك لأن الموقف الذي تتبنّاه دول كثيرة في الآونة الحالية هو عدم تقديم الدعم للجهات المسلحة المعارضة للحكومة الأفغانية. وهذا مع كونه يُشكل فرصة من جانبٍ فإنه على الصعيد الآخر سيؤول – إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه – إلى استحواذ الدول الأجنبية على مبادرة السلام وحينها ستضع هذه الدول اشتراطاتها ومطالباتها على طاولة المفاوضات.

بالنظر إلى ما ذُكر أعلاه، يظهر أن الإمارة الإسلامية باتت مدركة بشكل عام لأهمية المصالحة الوطنية ودورها لإعادة تأهيل البلد، إلا أنها ما زالت مفتقدة لآليات وخرائط طريق منظمة. بالنظر إلى الحاجة الملحة للإسراع في هذا الملف، نُشير إلى بعض الخطوات التي تمس الحاجة إلى اتخاذها في القريب العاجل.

الخطوات المقترحة لمشروع المصالحة الوطنية

فيما يلي بعض الخطوات التي تمس الحاجة إليها في المرحلة الحالية لأجل استغلال الفرصة السانحة للتفاوض مع السياسيين والمسؤولين بالحكومة السابقة وإعادة بناء جو الثقة المتبادلة:

أولا: الوفاق الوطني يُعد الخطوة الأهم والأكثر استعجالا لأجل تثبيت دعائم الأمن والاستقرار بالبلد، وبما أن هناك فرصا كثيرة متاحة لهذا الأمر فعلى الإمارة الإسلامية أن تكون على مستوى الوعي المطلوب حيال خطورة الموقف وأن تشرع في المحادثات والتفاهمات اللازمة.

حتى الآن لا يوجد تفاهم واضح بين أفراد جماعة طالبان حيال مطالبات معارضي الحكومة بشأن السلام؛ لذا من الضروري في المرحلة الراهنة أن تقوم الإمارة الإسلامية برسم خطوطها الحمراء وفق ما تُمليه المصالح الإسلامية والوطنية وتوضح البنود والمواضيع القابلة للتفاوض والمناقشة. على الأغلب هناك نقاط اختلاف قليلة جدا وذلك لأن طرفي النزاع راغبان في تأسيس نظام حكم إسلامي يمثل كافة فئات الشعب الأفغاني. بالإضافة إلى ذلك هناك ضرورة لتفاهم دوائر الإمارة الإسلامية حيال سياسات الحكم الداخلية وتداول السلطة. يبدو حاليا أن هناك اختلافا في وجهات النظر والمواقف حيال هذه الأمور الداخلية، وما لم تُمح هذه الاختلافات الحدية فإن الحصول على ثقة الأفغان المعارضين سيكون متعذرا.

ثانيا: حتى الآن لم تتضح رؤية الإمارة الإسلامية حول مشروع المصالحة الوطنية. مع أن بعض المسؤولين رفيعي المستوى بالإمارة يُعلنون بعد كل فترة عن رغبتهم في عودة الشخصيات السياسية والمسؤولين بالحكومة السابقة إلى أفغانستان ولأجل هذا الأمر تم تشكيل اللجنة المختصة بهذا الشأن مؤخرا؛ إلا أن هناك حاجة لإصدار قرار من قيادة الإمارة يفيد رؤية النظام الحاكم حول الوفاق الوطني ويكون مبينا لخارطة الطريق المتوخاة للوصول إلى هذا الهدف.

حتى الآن لا تُظهر حكومة طالبان اهتماما بالغا بمشروع المصالحة حتى لا تُظهر وجودَ معارضة حادة، ويظهر أن الإمارة قد غلبت منافسيها بالكامل ولم يبق هناك أي تهديد تجاهها. إلا أن هناك مخاوف حول تدهور الأمن المستتب حاليا في أية لحظة، وإذا لم تتم إزالة دوافع المعارضة على المدى الطويل فإن الأوضاع ستُهيّأ مرة أخرى للاضطراب الأمني بالبلد.

ثالثا: لأجل إنجاح عملية المصالحة الوطنية ينبغي تشكيل مجلس استشاري مكون من عدد من الشخصيات السياسية السابقة والمسؤولين والقادة المستقلين مع منحهم الصلاحيات اللازمة ليفاوضوا الأفغان الذين لجؤوا إلى الدول الأجنبية ويمهدوا للمفاوضات بين أولائك المهاجرين والحكومة الأفغانية الحالية. مع أن المسؤولين رفيعي المستوى بالحكومة الحالية مُخولون حاليا بعدد من الصلاحيات والقرارات التي قد يقبلها الطرف المقابل إلا أن أرضية التفاهم المشتركة بين الجانبين ليست مُهيأة بالكامل، لذا هناك حاجة إلى وسطاء خيّرين من الشعب الأفغاني ليلعبوا دورهم في تهيئة الأجواء للمفاوضات وإعادة الثقة المفقودة بين الجانبين.

رابعا: ينبغي التواصل مع كافة الدول المناصرة لمشروع السلام الوطني على مستوى المنطقة والعالم، ليتم التواصل من خلال هذه الدول مع الفئات الأفغانية المُعارضة حتى تنزع يدا من معارضتها. بإمكان هذه الدول أن تلعب دور (الطرف الثالث أو المحايد) في هذه العملية.

خامسا: خلال المذاكرات ينبغي اجتناب استخدام اللهجة التي لا معنى لها لدى الطرف المقابل إلى الاستسلام. الحقيقةُ هي أن الأفغان المناهضين لحُكم الإمارة الإسلامية لهم مطالبات مشروعة وأخرى غير مشروعة، لذا لا بد على أقل تقدير من تمهيد الطرق لعقد المفاوضات حول المطالبات المشروعة ويُسمع حينها من الفئات المُعارِضة للحكومة.

في شأن المصالحة الوطنية يُلاحظ أن طالبان لا تقبل بمزاعم توحد المعارضين والتفافهم حول محور منظم، فالإمارة ترى أن هذا التوحد سيخلق أمامها تحديات كبيرة. ينبغي أن لا تُجعل هذه القضية عائقا يعوق دون بدء مفاوضات السلام، بل ينبغي الشروع في المحادثات مع كافة الجهات المعارِضة باعتبار كونهم أفغانا، بغض النظر عن التسميات التي يتسمون بها.

سادسا: بالإضافة إلى الخطوات المذكورة فإن أهم خطوة هي تقديم تصريحات واضحة حيال نوع نظام الحكم الذي سيتولى شؤون البلاد. من الملفات المهمة في هذا الشأن ملف الشرعية الداخلية وأطروحات تداول السلطة وآليات المشاركة السياسية الشعبية. ليس ضروريا في هذا الصدد أن يتم إشراك معارضي الحكومة في السلطة، وإنما على الأقل يلزم وضع أُطر وآليات تضمن التنوع السياسي والاجتماعي اللازم في دوائر نظام الحكم. لذا فإن أول خطوة مهمة في هذا الشأن هو الخطو نحو تعديل واعتماد الدستور الذي يعكس مستقبل البلد وذلك لأن الأوضاع الراهنة تسير باتجاه غامض لا يُساعد المواطنين المهاجرين على العودة إلى ديارهم.

النتائج المتوقعة لمساعي المصالحة الوطنية

  1. في حال نجاح المصالحة الوطنية يمكن منع التدخلات الحاصلة من مختلف دول المنطقة والعالم وبقية التيارات والجماعات المحتالة. وذلك لأن الحربة الوحيدة بيد تلك الدول والجماعات هي حربة المعارضة الأفغانية حيث يتم استثمار هذه الحربة لأجل إعمال الضغط على الإمارة الإسلامية في سبيل الوصول إلى أهدافها وغاياتها.
  2. مع أنه لا يُؤمل إرضاء كافة الشخصيات السياسية والأحزاب المعارضة وعودتها إلى أفغانستان؛ إلا أن نجاح المصالحة الوطنية وعودة الكثير من الشخصيات السياسية إلى البلد سيقلل إمكانية واحتمال نشوب الحروب الأهلية في أفغانستان.
  3. مع عودة المعارضين السياسيين إلى أفغانستان تتحسن صورة وسمعة الإمارة الإسلامية لدى العالم وتُمهد السبل لتشكيل حكومة شاملة لكافة الأطياف الأفغانية وسيؤثر ذلك إيجابيا على علاقة الإمارة الإسلامية بمختلف دول العالم. من جملة الآثار الإيجابية الجديرة بالذكر في هذا الصدد إمكانيةُ الاعتراف الرسمي بالحكومة والتنميةُ الاقتصادية حيث يُتوقع إحياء هذين الملفين إذا تحسن التعامل الدولي مع الحكومة وتدفقت المساعدات الإنسانية على البلد.
  4. لا شك أن إعادة تأهيل البلد يحتاج إلى مساعٍ كثيرة ومتتالية، كما أن عودة المواطنين الأفغان إلى أفغانستان سيساعد على تنمية مختلف قطاعات البلد و تقوية نظام الحكم، كما سيصحب ذلك الحدّ من هجرة العقول والكوادر الأفغانية المثقفة إلى الخارج.
  5. يُذكر في هذا السياق أيضا أن قبول بعض مطالبات الجهات المعارضة خلال عملية المصالحة الوطينة على النحو الذي يوائم مصالح البلد يُعد ذا تأثير إيجابي على استقرار مستقبل أفغانستان. يمكن التمثيل على ذلك بقضية تغيير وتحسين السلوكيات المتبعة من قبل الحكومة مع المواطنين وضرورة استبدال الأحكام والنظم القانونية بالأوامر والتصرفات النابعة من أذواق الأفراد والجماعات.

النهاية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *