حرب أوكرانيا وتأثيراتها الجيوسياسية على دول المنطقة وأفغانستان

تحرير: مركز الدراسات الاستراتیجية والإقلیمیة

ملاحظة: انقر هنا للحصول على ملف PDF لهذا التحليل.

___________________________________________________________________

ستقرؤون في هذه النشرة:

• مقدمة
• أهمية أوكرانيا الجغرفية لروسيا
• الآثار الجيوسياسية على المنطقة
• زيارات بوتين لدول المنطقة
• المنافسات الدولية وأفغانستان
• مكانة أفغانستان في النظام الإقليمي
• النتائج

___________________________________________________________________

مقدمة

الحرب الروسية في أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وضعت روسيا أمام اختبار تاريخي بإمكانه أن يتيح تمدد الرقعة الروسية إلى الحدود السابقة لدول الاتحاد السوفييتي؛ أو قد يجر البلد إلى حالة الانكماش السياسي والتدهور الاقتصادي.
إن نُظم المنطقة والعالم التي تضم النظام الجيوسياسي والجيواستراتيجي والجيوثقافي والجيواقتصادي باتت قابلة للتمييز في عصر العولمة أكثر من أي وقت مضى. في هذا السياق تُعد حرب أوكرانيا بداية فصل جديد من النظام الإقليمي، وذلك لأننا نعيش في فترة لم يعد بإمكان الدول فيها أن تنفصل عن دول المنطقة وتحظى بالأمن والاستقرار داخل حدودها باستقلالية تامة. لقد بات التأثر والتأثير المتبادل بين الدول وجاراتها من خصائص هذا العصر.
لقد احتلت أفغانستان موقعا محوريا وبارزا في المنافسات والمعاملات السياسية الإقليمية والدولية، وفي العصر الحاضر نشهد آثار مُجريات الساحة الأفغانية على التغييرات الإقليمية والدولية الكبرى كما أن آثار تلك التغييرات على حاضر ومستقبل أفغانستان أمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق.
يدور هذا المقال حول أربعة محاور. 1. أهمية أوكرانيا الجغرافية في أنظار روسيا 2. التغييرات الإقليمية الجيوسياسية 3. زيارات بوتين إلى دول المنطقة 4. مكانة أفغانستان في النظام الإقليمي. كما سيتم تحليل آثار الحرب الأوكرانية على المنقطة وأفغانستان بموازاة المحاور الأربعة المذكورة.

أهمية أوكرانيا الجغرفية لروسيا

أوكرانيا هي ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا، وقد كانت أوكرانيا منذ عام 1812م منطقة أمنية لروسيا على حدودها الغربية. لعبت أوكرانيا دورا هاما في الحرب العالمية الثانية وخصوصا في انهزام ألمانيا، حيث إن القوات الألمانية كانت مضطرة لعبور 1600 كلم من أراضي أوكرانيا لتصل إلى موسكو عاصمة روسيا. من الأسباب الرئيسة لإخفاق ألمانيا في هذه الحرب طبيعة أوكرانيا الجغرافية التي جنّبت روسيا من هزيمة وشيكة. إذا وقعت هذه الدولة بيد حلف الناتو فإن المسافة الموصلة إلى موسكو لن تتعدى 400 كلم.
بالإضافة إلى أهمية أوكرانيا لموسكو من الناحية الجيوسياسية والجيواستراتيجية فإن لها كذلك مكانة تاريخية ودينية هامة. على الصعيد التاريخي يعدّ الروس مدينة كييف منبتهم التاريخي حيث نشأت بها أول دولة روسية، وفي البُعد الديني تُعد مدينة كييف الحاضنة الأساسية لأول كنيسة أرثوذكسية في بلاد الروس.
يقول عالم الاجتماع الغربي المشهور مكيندر: إن الدولة المسيطرة على قلب العالم تستطيع أن تتحكم في كل العالم. أوروبا الشرقية قلب العالم وأوكرانيا جزء مهم من هذا القلب. بالنظر إلى ما ذُكر تتمتع أوكرانيا بأهمية جيواستراتيجية وجيوسياسية فائقة لكل قوة عالمية وخصوصا لروسيا. يرى معظم الخبراء الاستراتيجيون أن روسيا التي تضم أوكرانيا قوة عالمية، إلا أن روسيا بدون أوكرانيا لن تتعدى كونها قوة إقليمية؛ ولذا تقع أوكرانيا في محراق أنظار ومخططات موسكو.
السبب الذي يجعل أوكرانيا منطقة مهمة لروسيا هو أن موقع أوكرانيا موقع أمنيّ وحياتي لروسيا، كما أن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو بإمكانه أن يخلق تحديات لروسيا في مناطقها الحدودية حيث إن أوكرانيا بعد الانضمام للحلف ستكون مُضيفة لقوات الناتو ومقرا لصواريخه.

الآثار الجيوسياسية على المنطقة

كان يُتصور مع بداية الحرب الروسية في أوكرانيا أن الهجمة الروسية ستكون حاسمة وسريعة في نتائجها إلا أنها مكثت تتبتاطؤ وتتعقد مع مرور كل يوم، وحاليا لا يُعلم على وجه التحديد متى ستنتهي هذه الحرب. مع أن هذه الحرب في الدرجة الأولى أضرت بحياة الأوكرانيين وحطمت المدن والبنية التحتية بهذه الدولة الواقعة في شرق أوروبا؛ إلا أن آثار ونتائج هذه الحرب تتخطى حدود دولة أوكرانيا بكل تأكيد. يمكن رصد آثار حرب أوكرانيا على دول المنطقة من منظورين:

أولا: المنظور السياسي

من هذا المنظور يمكن أن نرصد أول آثار حرب أوكرانيا من خلال تقلص رغبة المجتمع الدولي في القضية الأفغانية بعد منتصف أغسطس من عام 2021م. لا شك أن موضوع أفغانستان والأزمة الإنسانية بها قد تناساها المجتمع الدولي إلى حد ما بعد الحرب الأوكرانية التي شدت أنظار الدول إليها. تأثير الحرب المذكورة على حالة الفقر والفاقة الحالية بأفغانستان أيضا تأثير ملموس. من جانب أثرت الحرب على مجموع اقتصاد العالم ولم تسلم أفغانستان المتضررة بحروبها من هذا التأثير حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية وسلع الوقود بأفغانستان، ومن جانبٍ آخر تسببت الحرب في أن يخصص المجتمع الدولي أكثر مساعداته للنازحين جراء حرب أوكرانيا. مع ذلك فإن موقع أفغانستان الجيوسياسي جنبّ البلد من أن يُطوى في بساط النسيان بالكامل. تسعى روسيا – بحكم كونها لاعبا أساسيا في القضية الأفغانية – إلى أن يؤول مصير أزمة أفغانستان إلى وجهةٍ تتقاطع مع مصالحها. لهذا تحدث مؤخرا مسؤولو الحكومة الروسية عن احتمال الاعتراف الرسمي بالإمارة الإسلامية، الأمر الذي لا شك أنه سيفتح أبوابا نافعة للإمارة الإسلامية على الصعيد السياسي الإقليمي والدولي، إلا أنه سيضع أفغانستان ضمن دول القطب الروسي.
الآثار السياسية الأخرى لهذه الحرب تتمثل في تضاؤل الاهتمام بأزمة فلسطين وتصعيد جرائم الحرب من الجانب الإسرائيلي في فلسطين. تهميش الاتفاق النووي الإيراني – الغربي وإجهاض المساعي التي بُذلت لتحقيق هذه الاتفاقية الدولية أثر آخر من آثار حرب أوكرانيا. إن هذه الحرب شتّتت تركيز الساسة المعنيين بهذا الملف وأوجدت زوايا جديدة في علاقة إيران بكل طرف من أطراف الاتفاق النووي مما زاد من تعقيد الاتفاقية. وفي سياق التغييرات والتطورات التي أحدثتها حرب أوكرانيا لوحظ أن تركيا باتت غير راضية عن دول القارة الأوروبية بسبب تأخير إلحاقها بالاتحاد الأوروبي كما أن الحكومة الأمريكية أغفلت الجانب التركي إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. رغم الوعود والتهديدات المتعلقة بالحرب الأوكرانية، اغتنمت تركيا الفرصة لتجبر ما فاتها وتُظهر دورها الاستراتيجي وتفادت إغلاق مضيق البوسفور ومضيق الدردنيل أمام سفن روسيا الحربية على البحر الأسود، مع إن إغلاق المضائق كان سيكون له دور مؤثر على مصير الحرب. مع أن لروسيا وتركيا آراء وتوجهات مختلفة حيال سوريا وليبيا وقره باغ وحتى أوكرانيا، إلا أن أردوغان يسعى إلى استغلال الأزمة ليوصل رسالة إلى حلفائه من الدول الغربية تفيد بأن تركيا ليست الحليف المتوفر على الدوام؛ تركيا في هذه المرة لا ترغب أن تلعب دور محافظ كتيبة الناتو الجنوبية الشرقية دون الحصول على مقابل. لذا ظهر خلال فترة الاصطفافات حول الحرب الأوكرانية أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لم تعد متمتعة بقدراتها السابقة على الحشد وجمع الائتلافات. في الجانب المقال يُرى أن دول منطقة غرب آسيا قد ابتعدت عن سياسة الانقياد المطلق لقوى الغرب، وباتت تميل نحو الخطط السياسية الواقعية والنفعية. لقد أظهرت هذه الدول خلال حرب أوكرانيا أنها لم تعد ملتزمة مثل أمريكا وأوروبا بحلفائها السابقين، وإنما تسير في خضم الأحداث المتسارعة الدولية نحو الحصول على مصالحها الوطنية.
دول جنوب آسيا بما فيها باكستان مع كونها حليفة استراتيجية تقليدية للولايات المتحدة الأمريكية اتخذت حيال الحرب الأوكرانية الحالية موقفا محايدا، مع أن رئيس الوزراء الباكستاني السابق كان يسعى للتقرب من روسيا أكثرَ من الولايات المتحدة الأمريكية. على سبيل المثال صرحت وزيرة الدولة للشؤون الخارجية بباكستان ضمن كلمتها بمؤتمر (حرب روسيا وأوكرانيا؛ أزمة تتخطى الحدود) بالتالي: ترغب باكستان في الحفاظ على علاقات متزنة ووطيدة ورحْبة ومبتنية على المصالحة المتبادلة والاحترام المتقابل مع جميع القوى الكبرى، ومن ثَم تتطالب بالتوقف الفوري للخصومة بين الطرفين المتحاربين بأوكرانيا واتباع دبلوماسية تكفل إنهاء الحرب”. أكدت هذه المسؤولة الباكستانية أن الحرب سببت لبلدها آلاما وتجارب مريرة على مناطقها الحدودية لعدة عقود، ونظرا لذلك ترغب في الإيقاف العاجل للمنازعة والاستفادة من دبلوماسية الحوار لإنهاء الحرب فورا في أوكرانيا.

ثانيا: المنظور الاقتصادي

من الناحية الاقتصادية تُعد روسيا وأوكرانيا مصدرين مهمين لإنتاج القمح والدهون والحبوب الغذائية للطيور. ومن جانبٍ آخر فإن مكانة روسيا الهامة في مجال تصدير النفط والغاز يجعل نتائج الحرب الأوكرانية غير مقتصرة على حدود أوكرانيا، كما تولّدُ الحرب المذكورة تبعات وهزات ارتدادية يعود تأثيرها على دول المنطقة والعالم. تُعد روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أُعلن أن روسيا تُصدّرُ يوميا نحو خمسة ملايين برميل من النفط ويتم إرسال نصف هذه الكمية إلى الدول الأوروبية. من جانبٍ آخر فإن نسبة 40% من الغاز الضروري المستعمل في أوروبا يُستورد من روسيا. لذا فإن الموقع الخاص الذي تشغله روسيا وأوكرانيا في إنتاج السلع المذكورة يُضفي على حرب أوكرانيا – بالإضافة إلى الأبعاد الأمنية والعسكرية – أبعادا سياسية واقتصادية واسعة تؤثر بصورة بالغة على العالم وخصوصا على دول المنطقة. لحرب أوكرانيا تأثير مباشر على الحالة المعيشية في العالم وخصوصا منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا كما أنها تسببت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتقلص القدرة الشرائية لدى العامة؛ التحدي الذي بات ملموسا هذه الأيام بصورة واضحة في أسواق أفغانستان.

زيارات بوتين لدول المنطقة

‍زار رئيس الجمهورية الروسية فلاديمير بوتين مؤخرا عددا من دول آسيا الوسطى ومنها دولة طاجيكستان، حيث توجه بدعوة من رئيس جمهورية طاجيكستان إمام علي رحمن إلى العاصمة (دو شنبه). وقد كانت هذه ثاني زيارة إقليمية للرئيس الروسي بعد زيارته لدولة كازاخستان. قال رئيس جمهورية طاجيكستان إمام علي رحمن في اللقاء المذكور: “إن العلاقات الطاجيكية- الروسية تحتل مكانة رفيعة ضمن أولويات سياستنا الخارجية. روسيا هي شريكتنا الاستراتيجية، وكافة صور دعمها والقيام إلى جنبها مهمة لنا”.
كما صرح فلاديمير بوتين في الزيارة المذكورة قائلا: “تهمنا مواقف طاجيكستان حيال قضايا المنطقة، لذا يُعد دور طاجيكستان محوريا في الإبقاء على الأمن والاستقرار بالمنطقة. كما تعلمون فإن لنا مراكز عسكرية نشطة هنا تهدف إلى الحفاظ على أمن طاجيكستان والحدود الجنوبية لروسيا الاتحادية”. وفق قانون القطبية في العلاقات الدولية فإن طاجيكستان تُعتبر ضمن الدول النامية التي تعتمد في تطورها الاقتصادي على دولة روسيا التي تُعد قطبا لها في هذه المنظومة. طاجيكستان دولة لها مصالح مشتركة مع غيرها من الدول وحسبما يظهر من تصريحات اللقاء المذكور فإن طاجيكستان باعتبارها دولة نامية لا مناص لها من أن تُيمّم وِجهتها قبالة روسيا وهي القطب الذي تتبعه.
وفي سياق زيارات بوتين لدول المنطقة، يُلحظ أن سفره إلى طهران ولقاءه برؤساء إيران وتركيا سعيٌ لمواجهة النتائج المُرتقبة من زيارة بايدن إلى إسرائيل والسعودية. إن سفر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل والسعودية ألجأ روسيا إلى أن توصل رسالة تفيد بأنها قادرة على العمل والتعاون مع القوى الراغبة في وضع حد للسطوة والسيطرة الأمريكية في المجال الدولي. الدول المذكورة حاولت أن تسلط الضوء على زيارة الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل والسعودية وتظهر رسالة تقول إن أزمة أوكرانيا أخرجت صراع الشرق والغرب من قناعها الدبلوماسي إلى حالة اصطفافات ومواجهات صارمة وصريحة. إن لقاءات بوتين مع قادة إيران وتركيا بطهران تُعد بحق فرصة قل نظيرها لموسكو حيث أُتيح لروسيا أن تستثمر الدعم العسكري والاقتصادي المُقدم من جانب إيران وتركيا بشكل يواجه العقوبات الاقتصادية المفروضة من الغرب. في خضم هذه الأحداث السياسية المتسارعة لم يكن التنين الصيني المحافظ ليبقى دون الانخراط في أحد الصفوف؛ فإذا كان بوتين يرغب أن يقدم الحسابات الجيوسياسية على الحسابات الاقتصادية وفق سياسة الاتحاد السوفييتي السابق فإن الصين تميل حينها إلى تقديم القضية الاقتصادية على القضايا الجيوسياسية.

المنافسات الدولية وأفغانستان

بالنظر إلى المنافسات الدولية الكبرى التي كانت أفغانستان ميدانا من ميادينها، يمكن رصد ثلاث مراحل تاريخية للنظم الإقليمية والدولية: 1. اللعبة الكبرى. 2. الحرب الباردة، و 3. النظام العالمي الجديد.
في اللعبة الكبرى شكلت دولة إنجلترا وروسيا التسارية الطرفين الأساسين وسعت كل منهما للسيطرة على أفغانستان عبر عمالهم المتوغلين في البلد. مع أن إنجلترا نجحت في الإمساك بزمام القدرة السياسية في البلد إلا أنها أخفقت في النهاية وقد شكل إخفاقها نقطة تحول هامة في تطورات اللعبة الكبرى.
الحرب الباردة كانت فصلا آخرا من المنافسات الدولية، وبقيت فيها أفغانستان – مع الأسف – ميدانا للصراعات مرة أخرى. قامت دائرة هذا الصراع الدولي بين القطب الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي والقطب الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. الاشتراكية قدرت إلى حد ما أن تحتل دولا كثيرة منها أفغانستان، إلا أن عاقبتها لم تكن الإخفاق على مستوى أفغانستان فقط وإنما جرّت أذيال الهزيمة على مستوى العالم.
تشكل النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين بعد انهزام قطب الشرق بأفغانستان. هذا النظام جعل العالم أُحادي القطب. نظرا لما تتصف به أفغانستان من أهمية جيوسياسية وجيواستراتيجية فإنها مرة أخرى وقعت في محراق التعاملات السياسية على مستوى المنطقة والعالم في عصر النظام العالمي الجديد.

مكانة أفغانستان في النظام الإقليمي

منذ أربعة عقود حين احتمدت الصراعات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق وقامت الاصطفافات والتحزبات بين الجهتين؛ ظهرت موجة جديدة من المنافسات الدولية وباتت دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط تشهد أحداثا بارزة بعد كل فترة. خلال عدة عقود من التغييرات والمنافسات الإقليمية احتلت أفغانستان موقعا خاصا كما أنها كانت تخوض دائما أسوأ التجارب وأمرّها.
إن أفغانستان بلد مهم للولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والدول المجاورة نظرا للموقع الجيوسياسي الذي تتمتع به مع مجاورتها للصين وإيران وباكستان ودول آسيا الوسطى. الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تسعيان لتوطيد أياديها في هذا البلد.
منذ أربعة عقود تبدلت أفغانستان إلى ساحة لصراع الشرق والغرب. إن حضور الاتحاد السوفييتي وانهزامه في أفغانستان كنتيجة لجهاد الشعب الأفغاني، كما أن انهزام الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان يُشكّل بوابة جديدة تلج منها موسكو للعبة الكبرى كما أتاح لها استعراضا عسكريا أمام منافسيها القدماء. إبان فترة الاتحاد السوفييتي استطاعت روسيا من خلال تدخلها في الشأن الأفغاني لمدة عقد من الزمن أن تجعل البلدَ ميدانا للنزال مع أمريكا. والآن مع التحولات الجيوسياسية المحتملة في المنطقة فإن موقع أفغانستان الاستراتيجي تجاه أزمة أوكرانيا من الناحية الجيواقتصادية – إذا أغفلنا الجانبين الجيوسياسي والجيواستراتيجي – موقع هام لروسيا وأمريكا. في قِدم التاريخ برزت أهمية هذا النطاق الجغرافي من خلال طريق الحرير. إلا أن أهمية موقع أفغانستان في الفترة الحالية يرجع إلى إمكانية تمديد أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى باتجاه جنوب وشرق آسيا. لا شك أن أفغانستان كانت ومازالت تمثل مطمعا مهما للغرب باعتبارها ممرا للنفط. إن موضع أفغانستان الاستراتيجي والمتسع مساحةً يتيح نقل النفط والغاز من آسيا الوسطى باتجاه الجنوب والأنهار الكبرى، مما يمكن أن يُزيح إيران من طاولة المفاوضات حول نقل الطاقة إلى شرق وجنوب غرب آسيا.
بالإمكان تقسيم الدول المجاورة لأفغانستان إلى دول مجاورة بعيدة وقريبة. الدول المجاورة القريبة هي التي تشترك مع أفغانستان في حدودها ويمكن تقسيمها من الناحية الجيوسياسية إلى ثلاث أنواع: أ؛ إيران ودول الخليج على الجهة الغربية. ب؛ شبه القارة الهندية على الجهة الجنوبية والشرقية. ج؛ الاتحاد الروسي ودول آسيا الوسطى على الجهة الشمالية. د؛ الصين. كما أن هناك دولا لا تملك حدودا مشتركة مع أفغانستان، إلا أن لها يداً بارزا في المعادلات الداخلية بالبلد ومن هذه الدول وتركيا والسعودية. كل مجموعة من هذه المجموعات المجاورة والمحاذية لأفغانستان تمثل قطاعا جيوسياسيا له مصالحه ومطامعه وأياديه العاملة في أفغانستان. لذا، لا بد لأفغانستان أن تنشئ علاقات حسنة مع جيرانها نظرا لهشاشتها من الناحية السياسية والإثنية والدينية ونظرا لاحتياجها المالي والعسكري وكونها بلدا ناميا من دول العالم الثالث وكونها محاطة باليابسة، وتكونُ هذه العلاقة قائمة على منهجية واقعية ترعى مصالحها حين التعامل والمواجهة مع القوى الكبرى.

النتائج

مع احتدام الأزمة الأوكرانية يشهد النظام الدولي حربا باردة مشابهة لسابقتها في التاريخ المعاصر. إن ألقاء نظرة في التغيرات الناشئة من الحرب الباردة السابقة ومقارنتها بالجو الحالي المتمخض من تحولات أوكرانيا يخلق في الذهن تصورا ببدء الحرب الباردة الثانية.
إن ائتلاف روسيا مع الصين ودول أمريكا اللاتينية، وسفر الرئيس بوتين إلى دول آسيا الوسطى وخصوصا زيارته لإيران ولقاؤه الثلاثي مع (رئيسي) وأردوغان يحكي تشكلا لنظام جيوسياسي جديد. إن تكرار هذه التحالفات يعكس دأبَ روسيا مرة أخرى لمحْق سياسات أمريكا السلطوية واستئناف سياسات خروتشوف التي تبناها في الحرب الباردة. هذه الأطروحة الاحتمالية إذا تحققت فيُتوقع حصول تغيير ثابت نسبيا في النظم الدولية حتى إنه يُحتمل أن تصحبه حرب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
من الناحية الجيوسياسية تُعد أوكرانيا حدا فاصلا بين قطب الشرق وقطب الغرب. سلطة الغرب المتمثلة في حلف الناتو تنتهي مع حدود أوكرانيا الغربية، كما أن قوة الدب الروسي تبدأ من الحدود الأوكرانية الشرقية. من الناحية الاستراتجية لعبت أوكرانيا دور حائط دفاعي وثكنة عسكرية استخدمتها روسيا ضد قوى الغرب، وإذا انضمت أوكرانيا إلى حلف الناتو فإن هذا الحائط سينهار وسيكون هذا الانهيار – بعد انهيار جدار برلين – هو ثاني سقوط جداري مُعلن عن تهالك وتهاوي القوة الروسية.
لا شك أن أوكرانيا لأسباب أخرى تشمل الأسباب الاقتصادية والثقافية تُعد عمقا استراتيجيا لروسيا، حيث يرى معظم المنظّرين أن روسيا مع أوكرانيا تُحسب قوة دولية إلا أنها دون أوكرانيا لا تتعدى كونها قوة إقليمية. على كل حال يمكننا القول بأن أوكرانيا صارت رأس حربة التقابل والمواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ولأجل هذا تتبنى موسكو سياسات حازمة وقاطعة في ملف حرب أوكرانيا. في الحقيقة إن روسيا بعد ثلاثة عقود اعتزمت أن تستعيد مجد فترة الثمانينات، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بمخيالها السلطوي إلى إلغاء النظام الدولي الحالي المتسم بالثبات النسبي.
في النهاية يمكن القول بأن حرب أوكرانيا يمثل نهاية نظام القطب الواحد الدولي وبداية أنظمة محلية وإقليمية تتمحور حول عالَم متعدد الأقطاب. في هذا التحول الكبير ستمر المنطقة باضطرابات جديدة. أفغانستان بسابقتها التي شهدت الحضور السوفييتي والأمريكي على اختلاف في مدة الحضور تقع في موقع مشابه تقريبا أمام القوتين المذكورتين، كما أن المكانة الجيوسياسية التي تتمع بها أفغانستان تشكل ثكنة عسكرية مُحكمة ونطاقا للمنافسات الدولية بعد أوكرانيا. في خضم هذه الصراعات الحاصلة بين القوى الكبرى على أفغانستان أن تُدير علاقاتها الدولية وفق الرؤية الاستراتيجية الواقعية. إن معيار الولاء والبراء في السياسات الخارجية لأي دولة يكمن في مصالحها الوطنية، كما أن مصالح أفغانستان الوطنية تلوح تحت دبلوماسيةٍ نشطةٍ ومتعددةِ الجوانبِ في تعاملها مع القوى الدولية الكبرى وحسنِ جوارٍ مع الدول المجاورة.
النهاية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *